المقال هو في الأصل هو عبارة عن وجهة نظر دافع عنها الكاتب ضمن نقاشات مع مجموعة من المناضلات الألمانيات ينتمين إلى مجموعة "أمنستي" لمدينة كولون الألمانية، ضمنهن الكاتبة الألمانية Renate Heine. ودار النقاش حول وضع المرأة المغربية من خلال مدونة الأحوال الشخصية ليتشعب ويتطور إلى نقاش عام حول وضع المرأة التاريخي وعلاقتها بالرجل خاصة أن المناضلات الألمانيات كن ينتمين إلى إيديولوجيات مختلفة (المسيحية، العلمانية، الاشتراكية). ومن داخل السجن المركزي بالقنيطرة قام الكاتب بالدفاع عن وجهة نظر الماركسية في الموضوع.
وفي سياق آخر وبدعوة من الجمعية المغربية للنساء التقدميات (فرع الرباط) ضمن استعدادها لأنشطة 8 مارس 2002 - والذي سيعرف نجاحا هاما ساهمت فيه العديد من القوى الحقوقية والسياسية والنقابية عبر تنسيقية محلية لإحياء العيد الأممي للمرأة – قام الكاتب بتقديم هذا العرض.
المرأة، الحب، الزواج والمجتمع الطبقي
"إن العلاقة المباشرة، الأكثر طبيعية، والأكثر ضرورة للكائن البشري مع نظيره، هي علاقة الرجل بالمرأة (....) في هذه العلاقة يتوضح أيضا إلى أي حد يصبح احتياجه احتياجا إنسانيا، وإلى أي حد يصبح الإنسان الآخر، بما هو إنسان بحاجة يستنكر ضرورتها، كذلك يتوضح إلى أي حد يكون المرء في وجوده الأكثر فردية، كائنا اجتماعيا في نفس الوقت... وبالإمكان على ضوء هذه العلاقة أن نصدر حكما على درجة التطور البشري". المخطوطات الاقتصادية والفلسفية – كارل ماركس 1844
"... فلا يمكن أن تكون حرية، ولم تكن قط، ولن تكون يوما حرية حقيقية طالما لم تتحرر المرأة من الامتيازات التي يكرسها القانون للرجل، طالما لم يتحرر العامل من نير الرأسمال، طالما لم يتحرر الفلاح الكادح من نير الرأسمالي والملاك العقاري والتاجر". نفس المرجع السابق
I – تقديم:
"في موقع الخيانة الزوجية من يحب امرأته بشكل حار" القديس جيروم
لقد قل اليوم من يستطيع أن يسم بهذا الوضوح وهذه الدقة، رغم أن الأمور لم تتغير في جوهرها، الرجل الذي يحب زوجته بالخيانة الزوجية. ذلك أن ترسانة المفاهيم الدينية والقانونية في ظل المجتمعات الطبقية الأبوية الحديثة، تطورت وانصهرت وأصبحت أكثر قدرة على التكيف مع المعطيات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية الجديدة لعصرنا دون أن يعني ذلك تخليها عن الجوهر في نظرتها لعلاقة المرأة بالرجل وعلاقة الحب بالزواج. شفافية المجتمعات الما قبل الرأسمالية لم تعد ممكنة في ظل مجتمع البضائع والربح بامتياز: المجتمع الرأسمالي.
فكما لا نستطيع إدراك طبيعة القوانين التي تحكم علاقة الرأسمال بالعمل، دون النظر إليها في شمولية العلاقات الاجتماعية السائدة داخل التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية، كذلك تغيب القدرة على فك ذلك اللغز المحير الذي يكتنف علاقة المرأة بالرجل، إذا لم توضع هذه العلاقة في إطارها الاجتماعي الاقتصادي والثقافي الشامل.
ففي المجتمعات الما قبل الرأسمالية شكلت الخيانة الزوجية كمؤسسة دينية- قانونية سلاحا في يد الرجل يحاول به الحفاظ على مصالحه الخاصة واقتلاع الخوف الذي يحكم نظرته إلى المرأة وجسدها لذلك حاول بشكل مأساوي ويثير السخرية في آن واحد إخراج ذلك المارد الذي يسكن جسد المرأة فيجعل منها حسب هذا الوهم الرجولي نهرا من الرغبات الجنسية التي لا ترتوي. أفلا نقرأ في قانون مان مثلا ما يؤكد هذه النظرية، "لا يهم المرأة كون الرجل شابا جميلا أو مشوها يكفيها كونه رجلا، ذلك أن البحر لا يرتوي أبدا من الأنهار والنار من الحطب ولا الموت من الكائنات الحية، كذلك المرأة لا ترتوي من الرجل. لقد خلق الله المرأة في الأصل فاسدة، مغرورة معجبة بجلدها وزينتها، مضطربة في شهواتها".
إن ماردا ما أو شيطانا لعينا يسكن جسد المرأة، ولذلك لم تبخل الإيديولوجيات السائدة في المجتمعات الطبقية الما قبل الرأسمالية في إبداع وسائل إخراج هذا المارد من قمقمه، فمن الإحراق إلى الرجم والجلد والتشهير إلى الحبس في أديرة خاصة (Claustration) والشنق. كلها مكنسات لتطهير جسد المرأة المسكون بالعفاريت والشياطين الداعية إلى الشهوة المنفلتة من عقالها بلا حدود. وقد بلغت هذه الهستيريات والهلوسات حول شبق المرأة حدودا قسوى، حين بدأ الرجال يضعون أقفالا لفروج نسائهن. (ظاهرة عرفتها أوربا إبان الحروب الصليبية لما كان الرجال يذهبون إلى الحرب (حالة حزام العفة)، كما عرفتها وتعرفها العديد من البلدان العربية والإفريقية بالإضافة إلى ظاهرة ختان الفتيات). وسيلجأ الدين بدوره إلى محاولات تفسير هذه "الحالة المرضية" المزعومة للمرأة من أجل تقنينها وضبطها. لقد نصب الدين نفسه طبيبا مداويا لهذه الحالة ودخل السباق من أجل فرض سبل المعالجة الخاصة به، والتي لم تكن في نهاية الأمر إلا في خدمة الرجل والمجتمعات الطبقية، حيث شكل الدين عنصرا أساسيا في الإيديولوجيا السائدة للطبقات السائدة، كما هو الحال في القرون الوسطى (أوروبا والعالم العربي). وبحكم الظروف التاريخية لهذه المجتمعات، لم يولد القمع الذي نتج عن حالة الاضطهاد والقمع الوحشية التي تعرضت لهن النساء، وعيا بوضعيتهن إذا استثنينا لجوئهن إلى تقنيات وهمية مثل السحر وغيره للدفاع عن أنفسهن والانتقام من الرجال. ذلك أن وعيهن لم يخرج ولم يتحرر من حيز الخرافة والإيمان اللامحدود بتدخل قوى خارجية (جن وعفاريت وشياطين)، وجب إتقان التعامل معها ذلك أن دونية النساء - كما تقول سيمون ذو بوفوار - تعود إلى أمر واقع (une situation de fait) حصل منذ قديم الزمن وبناء عليه استطاع الرجل الذي وضع نفسه في موقع "الكائن الأساسي (essentiel) أن يرفض للمرأة حق المشاركة في نمط حياته وولوجها نظام أفكاره". وبحكم هذه الحالة التاريخية أصبح "الرجل يخضع الطبيعة لرغباته يخترع الأدوات ويتقنها، يعين نفسه رئيسا (chef) لأنه هو الذي يأتي بالمواد الضرورية للعيش..." و "شيئا فشيئا يوسط (médiatise) - أي الرجل - التجربة وفي تصوراته كما في وجوده ينتصر المبدأ الرجولي (le principe mâle) وينتصر العقل على الحياة... التقنية على السحر، العقل على الإيمان بالخرافات" وترى سيمون ذو بوفوار "أن الرجل غير قادر على تحقيق ذاته في عزلة عن الآخر لابد له من شاهد (un témoin) يشبهه دون أن يكون مطابقا له بذلك أصبحت المرأة ضرورية للرجل الذي يطالبها بأن تكون خارج ذاته، وكل ما لا يمكن أن يمسكه أو يتناوله في هذه الأخيرة، لأن دونية الكائن ليست إلا عدما، ولتحقيق كينونته ووصوله لذلك لابد من أن يلغي أو يسقط ذاته على موضوع ما. فالرجل يتمنى تحقيق نفسه ككائن بسيطرته وامتلاكه الجسدي لكائن آخر، بتأكيده لحريته، عن طريق حرية دليعة (docile)"، الشيء الذي دفع بوفوار إلى القول انه "لو لم تكن المرأة موجودة لاخترعها الرجال".
وفي المجتمع الرأسمالي وتحت شعارات الحرية والأخوة والمساواة والعدالة بنت البرجوازية مجتمعا جديدا على أنقاض المجتمع الإقطاعي عرفت فيه العائلة تحولات في بنياتها انتقلت بموجبها من شكلها الواسع إلى شكلها النووي. وانتقل الزواج من زواج ديني إلى زواج مدني بالفصل الذي قام بين الدين والدولة على إثر انتصار الفكر العلماني. واعترف للحب بمكانة ما داخل العلاقات الزوجية وحققت المرأة بعض المكتسبات المادية والمعنوية لكن دون أن يمس ذلك جوهر العلاقة القائمة بين المرأة والرجل وإذا كان قول جيروم وأمثاله قد أصبح اليوم مجرد مزحة يتلهى بها فذلك يعود إلى النضال المرير الذي خاضته النساء والإنسانية المعذبة ولازالت، لكي تسمو قيم الحب والأخوة والمساواة والتحرر الاجتماعي.
II – في المشاعات البدائية: (الزواج الجماعي والزواج الانتقالي)
تبرز العديد من الدراسات التاريخية كيف أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تدخلت في اتجاه انتقال الحياة الإنسانية من الحرية الجنسية المطلقة إلى الكبت الجنسي، وكيف أن هذا الانتقال رافقه كذلك تراجع في منزلة المرأة بسقوط المجتمع الأموي وانتقال المرأة من المساواة الحقة إلى العبودية المزدوجة والتبعية للرجل. ويقول كارل ماركس في مخطوطات 1844 "إن العلاقة المباشرة، الأكثر طبيعية، والأكثر ضرورة للكائن البشري مع نظيره، هي علاقة الرجل بالمرأة (....) في هذه العلاقة يتوضح أيضا إلى أي حد يصبح احتياجه احتياجا إنسانيا، وإلى أي حد يصبح الإنسان الآخر، بما هو إنسان بحاجة يستنكر ضرورتها، كذلك يتوضح إلى أي حد يكون المرء في وجوده الأكثر فردية، كائنا اجتماعيا في نفس الوقت... وبالإمكان على ضوء هذه العلاقة أن نصدر حكما على درجة التطور البشري".
إن الحكم على العلافة بين المرأة والرجل أو على الشكل الذي تنتظم فيه العلاقة الجنسية بينهما، يختلف باختلاف وتمايز الحقب التاريخية التي مرت منها أشكال هذه العلاقة أي بعبارة أخرى ارتباط الإشكالية بسيرورة تطور أنماط وأشكال الإنتاج التي عرفتها المجتمعات البشرية.
تؤكد الأبحاث التاريخية والدراسات العلمية منذ القرن 19 إلى يومنا هذا وجود أشكال من الزواج تلائم طبيعة الجماعات البدائية، حيث لا قيود على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بل كانت تتوفر علاقات قائمة على حرية جنسية مطلقة. وتبين الدراسات، على خلاف مزاعم الذين يؤكدون وجود العائلة الأحادية منذ الأزل، أنه لم يكن بالإمكان منع علاقات جنسية ضمن مشاعات صغيرة وذلك بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء مع الأب أو الأم، الأخوات من الأم، الأخوات من أمه وأبيه وعماته وخالاته الخ.... القول بذلك هو القفز عن الطبيعة البدائية لهذه المجتمعات البشرية الأولى التي لم تكن في وضع يسمح لها بأن تقيم علاقات الزواج خارج دائرة الجماعة المشاعية الصغيرة.
1 – الزواج الجماعي: هو الشكل الذي تتزوج فيه جماعة من النساء جماعة من الرجال وله المبررات المذكورة أعلاه. إلا أن هذه المميزات نفسها ستتغير تحت ضغط عوامل التطور الاقتصادية الاجتماعية، الديمغرافية والمناخية، مما كان له أثر في وضع قيود على العلاقات الجنسية الإباحية في الأصل. فكان أول قيد هو منع علاقات جنسية بين الآباء والأبناء (ذكورا وإناثا) ثم منع العلاقات الجنسية بين الأخوة والأخوات من أم واحدة إلخ... فظلت الدائرة تضيق بحسب الخصائص والمراحل التاريخية.
وترى إفلين ريد على خلاف وجهة نظر سيمون ذي بوفوار فيما يخص العلاقات القائمة داخل هذه الجماعات "أن العشيرة كانت في آن معا مشاعة من الشقيقات والأشقاء وكانت مجموعة الشقيقات، التي تشكل جوهر النظام الأموي، تدلل بوضوح عن طابعها الجماعي، فقد كانت النساء تعملن معا كمشاعة من الشقيقات وكانت أعمالهن الاجتماعية تعود بالفائدة على المجتمع برمته، وكن يربين أطفالهن أيضا بصورة جماعية ولم تكن الأم تميز بين ذريتها الخاصة وبين أولاد شقيقاتها في العشيرة. وكان الأولاد بدورهم يعتبرون جميع الشقيقات الأكبر منهم سنا أمهاتهم المشتركات. بتعبير آخر كان العمل المشترك والملكية المشتركة يقترنان بتربية مشتركة أو جماعية للأطفال وكان المرادف الذكوري لهذه المجموعة من الشقيقات يتمثل في مجموعة الأشقاء، المكونة وفق النموذج الجماعي عينه. وكانت كل عشيرة أو بطن تعتبر مجموعة من الأشقاء من المنظور الذكوري تماما كما كانت تعتبر مجموعة من الشقيقات أو مجموعة من الإناث من المنظور الأنثوي. ولم يكن الراشدون من الجنسين في هذه المجموعة الأخوية يكتفون بالتعاون على إنتاج ما يحتاجونه لتأمين سبل حياتهم بل كانوا يؤمنون أيضا حاجات أولاد المشاعة ويوفرون لهم الرعاية والحماية، وكانت هذه السمات تجعل من مجموعة من الشقيقات والأشقاء منظومة شيوعية بدائية.
قبل ظهور الأسرة التي يترأسها أب كانت وظيفة الأبوة إذن وظيفة اجتماعية، لا عائلية للرجال وعلاوة على ذلك كان الرجال الذين اضطلعوا في البدء بخدمات الأبوة رفاق الشقيقات في العشيرة أو أزواجهن بل كانوا أشقاءهن. ولا يسعنا أن نعزو ذلك بكل بساطة إلى جهل المجتمع القديم لسيرورات الأبوة الفيزيولوجية. فكل ما في الأمر أن الأبوة وفق مفهومها في المجتمع الأبوي ما كانت لتجد مكانا لها في مجتمع قائم على علاقات الإنتاج الجماعية وعلى التربية المشتركة للأطفال".
2 – الزواج الانتقالي:
هذا الشكل عبر عن نفسه في مراحل لاحقة من تطور المشاعات البدائية على الأخص مع ظهور الفن الفخاري واكتشاف المعادن. وقد شكل الزواج الانتقالي التهيئ اللازم للعائلة الأحادية. ويقوم على علاقة جنسية رئيسية بين رجل وامرأة (رجل واحد، امرأة واحدة) دون أن يمنع ذلك من قيام علاقة أو علاقات جانبية لكل منهما مع رجال أو نساء آخرين مع الحفاظ على حق كل منهما في الافتراق أو الانفصال لأي سبب وفي أي وقت.
III- سيرورة تفكك المشاعات البدائية ونشأة المجتمع الطبقي: (العائلة الأحادية والزواج الأحادي)
"إن العائلة العصرية لا تنطوي على جنين العبودية (servitus) وحسب بل أيضا على جنين القنانة لأنها مقرونة منذ بادئ بدء بفروض خدمات الزراعة. وهي تنطوي بشكل مصغر على جميع التناقضات التي تطورت فيما بعد على نطاق واسع في المجتمع وفي دولته" (من أرشيف كارل ماركس وفريدريك انجلس).
لقد برزت العائلة الأحادية مع انبثاق المجتمع الطبقي الأبوي الذي قام على أنقاض النظام الأموي وعلاقاته الاجتماعية المشاعية بما فيها - كما تقول إفلين ريد - مرادفها الذكوري أي النظام الأخوي. لقد تلازمت نهاية المجتمعات القائمة على الحق الأموي بإخضاع كذلك جماهير واسعة من الرجال للطبقة المسيطرة منهم، وقد كان أول شكل من أشكال الاضطهاد الطبقي فحسب انجلس: "إن أول تعارض طبقي ظهر في التاريخ تزامن مع تطور التعارض بين الرجل والزوجة في الزواج الأحادي، وتزامن الاضطهاد الطبقي الأول مع اضطهاد جنس الذكور للإناث" "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة.
إن بروز العائلة الأحادية استوجب انحلال وتفكك المشاعة البدائية أي تحولات أساسية في بنياتها الاقتصادية والاجتماعية إلى الحد الذي جعل ممكنا بروزها، وأهم الشروط التي وفرت هذا الانتقال هي:
أ ـ بروز قوى اجتماعية متسلطة حولت لصالحها فائضا اقتصاديا معينا جعل من الممكن قيام استغلال الإنسان للإنسان.
ب ـ تحول الملكية المشاعية إلى ملكية خاصة وتمركزها بيد الرجل وفر إمكانية اضطهاد الرجل للمرأة بقيام العائلة الأبوية.
إن انتقال الإنسان من الحالة الحيوانية (état zoologique) إلى الحالة الاجتماعية تم بظهور العمل كنشاط واعي واجتماعي للإنسان. لقد ولدت لديه الضرورة وتراكم خبراته في نضاله من أجل سد حاجياته البيولوجية والدفاع عن نفسه من أجل البقاء النزوع نحو صنع أدوات تكفل له سد حاجياته المادية ومواجهة الأحوال وأخطار محيطه الطبيعي (Homofaber). وسيلعب العمل من حيث هو نشاط جماعي واعي دور الرابط المشترك بين المنتمين إلى القطيع مشكلا قفزة نوعية نحو الانتقال من الحالة الحيوانية إلى الحالة الاجتماعية (انظر مقالة انجلس: "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان".
وفي إطار هذا النشاط الجماعي من أجل سد الحاجيات المادية للجماعة نشأت وسيلة التخاطب وتبادل الأفكار والتفاهم: اللغة وانتقل الإنسان من مرحلة Homofaber (الإنسان صانع الأدوات) إلى مرحلة Homosapiens (الإنسان الذي يفكر ويصنع أشياءه بتفكير قبلي).
ويرى العلماء أن العمل واللغة كانا عنصران أساسيان وحاسمان في تطور واكتمال تطور الجسم الإنساني (الجسد والمخ)، فمع العمل تولد المجتمع الإنساني ومعه لبنات أولى هذه المجتمعات : المشاعات البدائية ذات الاقتصاد البدائي حيث الناس يعيشون على شكل عشائر كل واحدة منعزلة عن الأخرى وتجمع كل واحدة منهن رابطة الدم والقربى.
في هذه الجماعات البدائية اهتم الرجال بالصيد واستعملوا من أجل ذلك وسائل بدائية فلم يكن الصيد كمصدر للعيش كافيا لسد الحاجيات الضرورية للمشاعة، بينما كانت زراعة الأرض (النساء هن من اكتشفن الزراعة) وتربية المواشي من اختصاص النساء، ذات أهمية قصوى مما نتج عنه وضع متميز للمٍرأة جعل الباحثين يسمون هذه المرحلة من التاريخ البشري بالمجتمع الأموي (الأميسي) (Matriarcat).
وستنتقل الزراعة المتطورة نسبيا والرعي وتربية المواشي تدريجيا إلى يد الرجال. ومن الثابت تاريخيا أنه كان لها دور رئيسي في حياة المشاعة، الشيء الذي سيهيئ القضاء على العشيرة الأموية وولادة العشيرة الأبوية في المراحل الأخيرة من تطور المشاعة البدائية. وقد كان لهذا التحول نتائج هامة من الناحية الاجتماعية حيث برزت أول قسمة عمل اجتماعية بين قبائل الرعاة (المختصة في تربية المواشي والرعي التي بدأت تعرف تراكما في اللحوم والحليب والصوف خصوصا بعدما تزايد عدد الحيوانات المدجنة)، وقبائل المزارعين المستقرة (حصل لديها هي الأخرى نوع من التراكم نتيجة تزايد المحصولات الزراعية)، وتولدت لديهما حاجيات متبادلة مما جعل التبادل ممكنا لوجود هذه الحاجيات الممكن تبادلها.
ومع اكتشاف المعادن وتقنيات تحويلها ظهرت أنشطة إنتاجية إلى جانب الزراعة والرعي وتربية المواشي كصنع الفخار، الحياكة اليدوية. ومع تكاثر هذه الأنشطة أصبح مستحيلا تمركزها بيد المنتجين (المزارعين) الشيء الذي أدى إلى ظهور فئة اجتماعية جديدة: الصناع وقطاعات صناعية جديدة مثل الحدادة، صناعة الفخار، صناعة الأسلحة. وعلى قاعدة هذا التقسيم الاجتماعي للعمل سيصبح منتوج هذه الفئة الاجتماعية موضوعا للتبادل عبر المقايضة في البداية (Troc) ثم نما ذلك بتطور التبادل بشكل كبير ونشوء طبقة جديدة: طبقة التجار.
كما رأينا أعلاه كانت الضرورة تحتم على العشيرة العمل الجماعي والمجهود المشترك من أجل زراعة الأرض وذلك لسد الحاجيات الأولية للمشاعة. كان العمل المشترك ضرورة ملحة . فالمجتمع لا يستطيع إنتاج فائض على ما يحتاجه. لقد كان مجتمع كفاف ليس إلا. ومع إتقان وسائل وأدوات الإنتاج وتزايد إنتاجية العمل بالخبرة والتجربة المتراكمين، أصبح التنظيم الاجتماعي للمشاعة غير قادر على البقاء. وأصبحت العائلة الواحدة قادرة على تأمين حاجياتها بفلاحة الأرض.
إن التطور التكنولوجي وتزايد الإنتاجية للعمل يشترطان الاستثمار الفردي العائلي الذي يتميز بالقدرة على تطوير الإنتاجية في تلك الشروط التاريخية. لقد ولد العمل الفردي الملكية الخاصة التي كانت نتيجة حتمية لتقسيم العمل الاجتماعي ولبروز التبادل.
ولقد تم التبادل حسب بعض الدراسات في البداية بواسطة رؤساء المشاعات والعشائر باسم العشيرة التي كانوا يمثلونها والتي كانت تمتلك المواد القابلة للتبادل. لكن هذا الوضع تغير تدريجيا بتطور قسمة العمل الاجتماعي واتساع التبادل لينتهي منتوج التبادل ملكا لرؤساء العشائر. فبدأت العشيرة تتفكك وتنقسم إلى عائلات أبوية كبيرة تنقسم بدورها إلى عائلات أصغر سيجعلون من وسائل الإنتاج والأدوات المنزلية والمواشي ملكية خاصة. ومع تطور هذه الأخيرة (الملكية الخاصة) ستتقلص روابط الدم الذي كانت تجمع العشيرة البدائية لتتحول إلى جماعات قروية. وفي إطارها تصبح أماكن السكن، الإنتاج المنزلي، المواشي والأرض ملكية خاصة، بينما تظل الغابات، المياه وأماكن الرعي ملكية جماعية. وسيستفيد رؤساء القبائل ورجال الدين (Les prêtres) وقادة العشيرة من وضعهم الخاص مشكلين بذلك أرستقراطية تحافظ على امتيازاتها بالوراثة داخل الخط الأبوي (خط النسب عن طريق الأب بدل الأم). وهكذا أصبحت الأغلبية الساحقة في خدمة هؤلاء وأصبح بالإمكان نتيجة ذلك استغلال الإنسان للإنسان.
ومن نتائج دخول المجتمع البشري عصر الحضارة بظهور الملكية الخاصة وانتصار الحق الأبوي على الحق الأميسي بقيام أول انقلاب في التاريخ (انقلاب الرجل على المرأة)، قيام الزواج الأحادي والعائلة الأحادية وملحقاتها. لقد قام هذا الشكل من الزواج على أساس رجل واحد مقابل امرأة واحدة. ومن الناحية التاريخية أصبحت السيادة للرجل داخل العائلة. ولم يكن في الواقع أحاديا إلا للمرأة التي فرض عليها حفاظا على بقاء ملكية وممتلكات الرجل في خط نسبه. ولدعم دور العائلة والزيادة في ممتلكاتها التجأ الرجل إلى تعدد الزوجات (La polygamie) وإلى العهارة المقدسة (كما كان الحال عند الفراعنة واليونان القديمة) والغير المقدسة. وقد ارتبط مفهوم الخيانة الزوجية في نشأته بهذه الحقبة. أما مؤسسة العهارة (أقدم مهنة في التاريخ) وما ارتبط بها فقد كانت أشياء في خدمة الرجل وما جرؤ أحد على اتهامه بالخيانة الزوجية، وانتقاما لنفسها ستلجأ المرأة إلى علاقات جنسية خارج مؤسسة الزواج تحت طائلة الموت إذا هي ضبطت وشك في إخلاصها.
IV- الحب والزواج والجنس في ميزان المجتمع الطبقي:
1- لم يكن الحب منذ نشأة الحياة الاجتماعية لدى الإنسان شيئا فوق المجتمع أو ظاهرة مجردة فيه. وإذا كان الحب كظاهرة اجتماعية يتأثر بعوامل البيئة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها للمجتمع فإنه بدوره يقوم بتأثير – كعامل نفسي اجتماعي – معين من داخل العلاقات الاجتماعية القائمة خاصة وأنه يتدخل في العلاقة التي تضمن استمرار المجتمع وتجديده: علاقة المرأة والرجل. إن وضع نظام أخلاقي يقنن هذه العلاقة ويضع لها قيما تستمد منها مضمونها، قد أجهد فكر الإنسان منذ القديم وقد تدخلت الإيديولوجيا بأشكالها المختلفة (دين، أسطورة... الخ) للإجابة عن هذا اللغز. وإذا كانت المفاتيح قد تغيرت -كما تقول كولونطاي- فإن اللغز ما زال قائما. وليس معنى هذا أن اللغز لم يتغير بل على العكس فإنه يواكب عناصر التطور الاقتصادية والاجتماعية الثقافية والحضارية للمجتمع مما يضفي عليه صبغة الحركية التي تلازمه ويجعل الناس في كل مفترق طرق تاريخي يحتارون في أمره، ويجهدون أنفسهم من أجل حل هذا اللغز الأبدي.
والحقيقة أن الحب عرف في مساره الطويل تطورا غذته هذه الخبرة الطويلة من الأحاسيس والعواطف والمشاعر لدى الإنسان الذي أصبح يتوفر على رصيد حضاري وثقافي يستطيع أن يغني به نظرته للحب. وتكاد المجتمعات البشرية في مراحل تطورها التاريخي تختلف بعضها عن البعض بأسلوب وطرق ومضمون الحب لديها.
2- ففي المجتمعات الأولى كانت رابطة الدم تشكل الأساس والمعيار الأخلاقي الأول في علاقة المرأة والرجل. وكان ما يجمعهما في ظل العلاقات المشاعية هو خليط أو على الأصح نسيج من الحب الأخوي (حب الأشقاء والشقيقات: انظر أعلاه) والحب الجنسي (انجذاب نحو شخص من الجنس الآخر). ففي المشاعة المنعزلة والمنغلقة على نفسها، القليلة في حجمها والمهددة باستمرار بالانقراض، كان من اللازم على سبيل المثال تعزيز العلاقة بين الأخت والأخ. وضمن العلاقات التي كانت قائمة -كما تقول كولونطاي- ما كان لينظر للمرأة التي تضحي لرجلها نظرة احترام.
ومع الانتقال من المشاعة إلى مرحلة أعلى كانت التشكيلة الاجتماعية الجديدة هشة وضعيفة وتبحث عن أشكال من العلاقات الروحية والمعنوية التي توحدها وتعزز تضامنها نسبيا. ففي ظل تشكيلة اجتماعية جديدة عرفت أول البنيات السياسية الطبقية كانت العلاقة المنظور إليها باحترام هي العلاقة بين شخصين (رجل وامرأة) ينتميان إلى نفس القبيلة، والعاطفة الملائمة أكثر لا علاقة لها بالحب بين الجنسين . فكان هناك نوع من الدمج بين الحب والصداقة لصالح القبيلة ووحدتها أي دعم تحالفاتها وروابطها بحسب الضرورة. المرأة لا قيمة لها من الناحية الاجتماعية وقد شهد التاريخ حالات كان الرجل فيها يترك زوجته لصديقه أو لضيفه احتفاء بمقدمه. الحب هنا قائم لمصلحة القبيلة والمجتمع ويخضع لمصلحتها. بين الصداقة والإخلاص للزوجة اختار المجتمع الإخلاص للصداقة التي كانت تقدر كثيرا وتقام لها الطقوس والمراسيم. وهناك كثير من الأساطير التي تسجل هذه الحقبة من التاريخ البشري. غير أنه من اللازم إضافة أن العبيد كقوة منتجة رئيسية في عديد من هذه المجتمعات كانت مقصاة من هذه القيم لأن العبد مثلا في المجتمع اليوناني والروماني القديمين كان يعتبر حيوانا يباع ويشترى ويقتل ويخصى لمصلحة سيده ولمصلحة مجتمع الأحرار. إن احتياج المجتمع للعبيد كقوة إنتاجية هو الذي سمح لهم بالتوالد تماما كما هو الحال بالنسبة للحيوانات الداجنة.
3- في المجتمع الإقطاعي تزايد اهتمام العائلة الأحادية (الكبيرة) بالحفاظ على مصالحها المادية وبقاء ممتلكاتها المشتركة ضمن خط نسب الأب الكبير للعائلة (Le patriarche)، لذلك استندت القيمة العليا للمجتمع على واجب الفرد اتجاه العائلة الكبيرة واتجاه تقاليدها وروابطها القائمة على العادات العائلية المتوارثة. هكذا فالرجل لا يختار زوجته بمحض إرادته فأحرى أن يكون ذلك على حساب مصالح العائلة. وإن فعل ذلك يتعرض لعقوبات صارمة. الزواج لا ينفصم مدى الحياة لدى مسيحيي القرون الوسطى، وتتدخل فيه الكنيسة ورئيس العائلة وإرادة الإقطاعي السيد (Suzerain). كان المجتمع الإقطاعي لا يؤمن بضرورة تعايش الحب والزواج، وغالبا ما كان يؤدي العكس إلى كارثة بالنسبة للمرأة والرجل اللذان يتحابان أو يضعان الحب في المرتبة الأولى في علاقتهما. وقصص القرون الوسطى مليئة بحكايات ممن أطلق عليهم فيما بعد شهداء وشهيدات الحب. وقد عاش المجتمع الإقطاعي على حروب داخلية بين الإقطاعيين أنفسهم أو بين هؤلاء والفلاحين الذين كانوا يثورون ضد القهر والاضطهاد وكذلك انتشرت الحروب الموجهة ضد بلدان خارجية باسم الدين وتحت لوائه (الحروب الصليبية)، لذلك وفي ظل هذه الظروف التاريخية كان المجتمع الإقطاعي في حاجة إلى قيم أخلاقية تحقق مآربه وتبررها وتعمل على ضبط علاقاته الطبقية والجنسية.
فنظام الفرسان كان يهدف إلى خلق الفارس المتحمس (exalté) لتحقيق بطولات عسكرية تتطلب الجلد والجرأة والجسارة. فلا يخفى ما كان آنذاك من دور للبطولات الفردية!
لكن أين موقع الحب في ظل العلاقات الإقطاعية السائدة وقيمها الأخلاقية؟
في أوربا القرون الوسطى قام الحب على معادلة مستحيلة لضرورة نفسية واجتماعية. فقد كان الفرسان (النبلاء) يختارون حبيبة قلب مستحيلة المنال. وقد كانت حبيبة القلب هذه زوجة إقطاعي آخر تعيش في أرائك حريرية داخل قصر من قصور زوجها الإقطاعي. إنه الحب الأفلاطوني (amour Platonique) الذي ينفي أي علاقة جسدية بين المحب وحبيبته تؤدي إلى إشباع الرغبة الجنسية لديهما. إن هذا النوع من الحب كان يولد لدى الفارس قوة ومعنوية عالية تجعله يحقق البطولات في سبيل ابتسامة أو مجرد نظرة من حبيبة قلبه. وهذا النوع من الحب تأخذه الإيديولوجية الإقطاعية بعين الاعتبار لأنه يضمن مصالح الإقطاع ويساهم في دعم وتعزيز كيان المجتمع الإقطاعي. وإلى جانب الحب الأفلاطوني كقيمة أخلاقية كانت الدعوة إلى التعفف والتقشف في العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل، بين الزوج والزوجة، بل إلى الامتناع عنها أحيانا (دعوات الكنيسة والإيديولوجية الطهرانية الرهبانية)، لذلك لا يحب الرجل الفارس امرأة من طبقته يتزوجها لأن ذلك يؤدي إلى تلاشي المحرك النفسي لبطولاته. وترى كولونطاي أن الفرسان في حماسهم من أجل تطهير الحب من كل مظهر جسدي ومن كل خطيئة، حولوه إلى عاطفة مجردة تماما عن أساسها البيولوجي. وقد وصل بهم الأمر حد اقتراف حماقات تجعلهم يحبون امرأة لم يرونها قط.
هكذا رأينا إذن أن المجتمع الإقطاعي رفض أن يجتمع تحت سقف واحد الحب والزواج. الزواج من هذا المنظور مجرد نشاط فيزيولوجي يتناقض مع رهافة أحاسيس الحب (نتذكر هنا قولة القديس جيروم المذكورة أعلاه) فكم من النساء فشلن من أجل ذلك!
وفي نفس الوقت وحفاظا على مصالح المجتمع الإقطاعي وتحصينا لوحدته كان للحب الأفلاطوني قيمة عليا دعت إليها الكنيسة والإيديولوجيا السائدة. ليس غائبا عنا أن الكنيسة والقيم السائدة كانت تخفي ما كان يقترفه الإقطاعيون الأسياد وغير الأسياد اتجاه البنات والزوجات المنتميات إلى طبقة الشعب من بورجوازية وفلاحين آنذاك. ولم تفت نساءهم فرصة الانتقام لأنفسهن حيث كن يلجأن إلى علاقات جنسية مع الخدم وأبناء الفلاحين التابعين للإقطاعية. ولكن إذا ضبطن كان نصيبهن الإحراق والموت. فالزوج يقبل بل ويحبذ أن يكون لها فارس يعشقها لكن أي علاقة جسدية تؤدي بها إلى الموت خصوصا إذا كانت مع أبناء الفلاحين أو الطبقات الدنيا في المجتمع.
احتلت المسيحية الكاثوليكية حيزا أساسيا في الإيديولوجيا السائدة في المجتمع الإقطاعي الأوربي وذلك لأسباب تاريخية. وقد شكلت المصدر الرئيسي لتشريع أو تحريم القيم والسلوكات الأخلاقية داخل المجتمع الإقطاعي. فكما لدى الديانتين الأخريتين (الإسلام، اليهودية) تبتدأ البشرية عند المسيحية بزوج واحد: آدم وحواء. ومن خلال أسطورة آدم وحواء تكرس فكرة: الرجل هو الأصل والمرأة هي الفرع الذي انشق من الأصل. وإذا كانت الديانات الثلاث تلتقي في هذا فإنها تختلف في التفاصيل الشيء الذي له قيمته التاريخية في التحليل. ويبقى الجوهر مع ذلك قائما. وأبسط قراءة في الخطاب الديني تزكي ذلك، حيث كما تقول غلوريا سترنيم: "أن صوت الله هو صوت الرجل". فحسب المنظور الديني فإن العائلة والزواج الأحادي هما سنة الله في خلقه، حقائق أزلية أرادتها مشيئة الخالق للمخلوق.
المجتمع البشري حسب المنظور المسيحي يبتدأ بزوج واحد والخطيئة الأصلية هي السبب في النزول إلى الأرض. حسب هذا المنظور للعالم، قامت الحياة الإنسانية على الأرض بخطيئة أصلية حين حثت حواء وأغرت آدم بالأكل من شجرة التفاح (أو شجرة المعرفة). فكان أن سبب ذلك غضب الإلاه الذي كان قد أوصى بعدم الأكل منها. والنتيجة هي نزولهما إلى الحياة الدنيا، إلى الأرض. ويقول عالم الدين المسيحي تارتيليان (Tartullien) بصدد مسؤولية المرأة في ذلك: "أيتها المرأة يلزمك أن ترتدي لباس الحداد، وثيابا رثة، أن تتقدمي طالبة المغفرة، فإنه في دموعك تلك التكفير عن خطيئة إفقادك للجنس البشري. إنك باب جهنم، لقد كنت تلك التي اجترأت على محرم شجرة المعرفة، معرفة الخير والشر، إنك الأولى التي خرقت القانون الإلهي. لقد أغريت ذلك الذي لم يكن الشيطان يجرِؤ على مواجهته مباشرة. لقد كنت السبب في موت المسيح".
ولا تختلف اليهودية التي انشقت عنها المسيحية عن هاته النظرة الدونية للمرأة. ففي الصلوات اليومية عند اليهودية يتوجه الرجل إلى الله قائلا: "أشكرك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة." وتجيب المرأة: "أشكرك يا رب لأنك خلقتني وفق إرادتك".
يمكن على ضوء ما سبق تأكيد أن الخطيئة والجنس يرتبطان ارتباطا سببيا لدى المسيحية. ويتجلى ذلك أكثر من فكرة اكتشاف آدم وحواء أعضاءهما التناسلية. هكذا وطوال القرون الوسطى وحتى الأزمنة الحديثة ستؤكد المسيحية الكاثوليكية على الرهبانية والطهرانية كقيمة عليا للمرأة والرجل وعلاقتهما الجنسية. وحين يفرض عليها مبدأ استمرارية الحياة القبول بالجنس فستتعامل معه باعتباره شرا لابد منه ولذلك تكررت دعواتها إلى التقشف فيه. هكذا نقرأ عند بلوص الرسول (Saint Paul) "فمن استطاع الاستغناء عنه فليقبل فهذا أفضل". ثم في رسالة منه إلى أقوام اعتنقوا المسيحية يدعون أهل كرنشيوش (حسب الإصحاح السابع): "وأما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها فحسب الرجل أن لا يمس امرأة. ولكن لسبب ليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها".ثم يستدرك" ولكن أقول لغير المتزوجين وللأرامل أنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا. ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا".
هكذا إذن حسب المنظور المسيحي كان ينظر للزواج باعتباره ضررا. وإذا كان لابد من الضرر فليكن أقل، والزواج هذا الشر الذي لابد منه يقبل لأنه يسمح بعدم السقوط في الزلة وتكون الغاية منه هي الإنجاب بهدف التكاثر حتى أنه في سبيل ذلك -كما يقول هادي العلوي- حلل محرما كما حدث للنبي لوط مع ابنتيه (عنصر التكوين: الإصحاح التاسع عشر).
كانت النظرة المسيحية خلال القرون الوسطى للحمل (العملية الإنجابية) متأثرة بشرح أرسطو لذلك. فالحمل يأتي عن طريق الجمع بين مني الرجل (العنصر النشيط الإيجابي) ودم المرأة كدم الحيض الذي هو عنصر سلبي). وسيترك ذلك تأثيره على النظرة المسيحية للذة الجنسية خصوصا بالنسبة للمرأة وخاصة ذروتها: النشوة الجنسية (L orgasme) التي يعرفها ويلهم رايخ (Wilhem Reich): "... بأنها تعني القدرة على التفريغ التام للجسم عبر تشنجات لا إرادية لذيذة لكل الهيجان والإثارة التي تراكمت في وخلال العملية الجنسية".
هذا التعريف لا وجود له في المسيحية. واللذة المعترف بها هي للرجل فقط. وليس ضروري للمرأة في العملية الجنسية أن تستمتع باللذة مادام عنصر الإنجاب الفاعل هو الرجل وبذرة الحمل هو مني الرجل. والحقيقة أن أوربا لم تكتشف أن المرأة هي الأخرى تتوفر على إمكانية الوصول إلى اللذة إلا في القرن 19 على يد دعاة التنوير والرومانتيكية. لقد دارت نقاشات طويلة بين فقهاء المسيحية في القرون الوسطى حول وضعية المرأة والرجل في عملية الجماع. واعتبر أغلبهم أن الرجل نشيط وفاعل (agens) بينما المرأة سلبية (Patiens). ولذلك فالدور الأكثر نبلا في العلاقة الجنسية يعود للرجل. وقد حددوا الوضع الجنسي الشرعي كما يلي: "إن الوضع الطبيعي هو أن تستلقي المرأة على ظهرها والرجل يستلقي على بطنه، عليه أن يراعي القذف في الإناء المخصص لهذا النبيل". ويقول سانشيز (Sanchez): "إن هذا الوضع ليس فقط ملائم لأنه يسهل اندفاق واستقبال والاحتفاظ على المني في الإناء النسوي (مهبل المرأة)، بل لأنه مطابق لطبيعة الأشياء التي تجعل الرجل إيجابيا (فاعلا) بينما المرأة سلبية (مفعولا بها)، وانقلاب الأدوار في الجماع يعتبر حسب علماء الدين المسيحيين مناقضا للطبيعة لأن المرأة بحكم هذا القلب تصبح إيجابية بينما يصبح الرجل سلبيا. إن الطبيعة تستفظع هذا القلب." وقد ذهب ميتوديوس في تعليقه على كتاب التكوين (La génése) إلى اعتبار: "أن سبب الطوفان يعود لقلب في الأدوار في العملية الجنسية، حين استبد النساء بالرجال وفرضوا العكس أي النساء فوق والرجال تحت. وتمشيا مع هذه التصورات تخضع عملية التمهيد والاستعداد للعملية الجنسية لنفس المنطق الرجولي المستبد. هكذا كتب طوماس سانشيز في القرن17: "أن الرجل يدرك أحسن منها (المرأة) رغبتها في الجماع".
وتستند هذه الوصاية على المرأة إلى التفسير التالي: "... لأن البرودة والحشمة أكثر حدة عند المرأة منها عند الرجل، فمن المسموح للمرأة أن تنتظر طلبا واضحا من الرجل لممارسة الجنس (يتحمل واجباته اتجاهها)، بينما غير مسموح للرجل أن ينتظر أو يتلقى نفس الشيء من المرأة، عليه أن يأخذ بعين الاعتبار حتى طلباتها النفسية تماما كما يفعل طبيب لما يهب إلى إنقاذ مريض حتى وهو الوحيد الذي يعلم بمرضه".
من نافل القول أن الكنيسة في تشريحها للعملية الجنسية وفي نظرتها لعلاقة المرأة والرجل خدمت إلى أبعد الحدود المجتمع الإقطاعي (طبقاته السائدة) وسيادة الرجل على المرأة بشكل ترابطي. لقد كانت أداة في خدمة الإقطاع وجزءا من بنياته السياسية والاقتصادية (الدولة غير منفصلة عن الدين) ومشرعا أساسيا لاضطهاد المرأة والتعسف على حريتها. فرب العائلة يمثل الكنيسة داخل الأسرة ويجسد المثل الأخلاقية للمجتمع الإقطاعي في قيادته للأسرة الكبيرة.
حين بدأت البرجوازية كطبقة اجتماعية صاعدة تتحرك، بدأت القيم والمثل الأخلاقية للمجتمع الإقطاعي تتعرض للنقد اللاذع من طرف فلاسفة عصر الأنوار والشعراء والكتاب المتنورين. هكذا أصبح مفهوم الحب الأفلاطوني مرفوضا وبدأت القيم الجديدة الناشئة تؤكد على ضرورة الربط بين الحب والزواج، مؤكدة ومطالبة بحقوق الجسد. ولم تبق الكنيسة في منأى عن هذه الصراعات. بل تعرضت لهزات كبيرة داخلها أهمها بروز الاتجاه البروتستانتي بقيادة لوثر (Luther) الذي خاض صراعا من أجل إصلاح الدين وانتقد بشدة عزوبة رجال الدين واعترف بالحب كقيمة في الزواج.
وإذا كانت العائلة الإقطاعية تهتم أكثر بالحفاظ على ممتلكاتها وقامت بدور الحارس الأمين لها، فإن الأساسي بالنسبة للعائلة البرجوازية هو مراكمة رأس المال واستثماره بعقلانية وبحساب دقيق وبتوفير ضروري. لذلك كان البرجوازي في حاجة ليس فقط لربة منزل جيدة، ولكن لصديقة ومساعدة لزوجها ومن هنا قيمة الحب كعنصر تلاحم بين الزوج والزوجة والأبناء. وقد واكب التطور انتقال العائلة من وحدة إنتاجية إلى وحدة استهلاكية وحارسة للٍرأسمال المتراكم. لقد قسم المجتمع الإقطاعي الحب إلى قسمين:
- حب جنسي محض يتم بالزواج أو ملحقاته العهارة وغيرها، وتكون فيه مصلحة العائلة فوق كل اعتبار ولا ضرورة لاتفاق الزوجين حتى يتم الزواج.
- حب نبيل (أفلاطوني) (حب الفارس لحبيبة قلبه) ومستحيل لا يهدف إشباع الرغبة الجنسية بل يتنزه عن ذلك ويقوم بتجريد الحب لحد الحماقة.
بينما قامت القيم الجديدة للمجتمع البرجوازي على رفض هذه المثل الأخلاقية ودعت إلى حب يضع حدا لانفصام الجانب المعنوي عن الجانب المادي، ويقول بزواج يقوم على الجسد. إنها دعوة إلى ثنائية تجمع بين الجسد والعاطفة. وقد ارتطمت بجدار العادات والتقاليد التي كانت تحملها طبقات أخرى من المجتمع خاصة لدى الفلاحين لاستمرار وبطئ تغير بنيات العائلة القروية كوحدة اقتصادية إنتاجية ولموقع هؤلاء من عملية الإنتاج الرأسمالي حيث كانوا يمثلون أنماطا وأشكالا من الإنتاج ما قبل رأسمالية.
لقد لعبت البرجوازية دورا هاما في إغناء مفهوم الحب وتطويره، لكن البورجوازية وضعت الحب في قفص غير ذهبي لأنها جعلته وسيلة ومطية للإغناء ولتحقيق أهداف العائلة البرجوازية في توسيع مصالحها المادية والمعنوية. ولذلك كانت الأولوية لمصالح العائلة واستمرار هذه المصالح في التزايد. والقيمة الكبرى هي خدمة العائلة ولو كان ذلك على حساب المجتمع. ومن أحشاء المجتمع الرأسمالي نشأت طبقة جديدة لا تحمل مواصفات الطبقة البرجوازية، طبقة لا تنتمي للماضي ولكن للمستقبل، طبقة لا توجد لها ما تفقده سوى قيودها، طبقة تحمل مشروعا تاريخيا جديدا هو المشروع الشيوعي الذي تنعدم فيه كل أشكال الاستغلال والاضطهاد القومي والجنسي. ورغم أن اضطهاد المرأة مستمر حتى داخل الأسرة البروليتارية، فلأول مرة تفقد الأسرة دورها التقليدي ولأول مرة تتوفر شروط مادية جديدة لتحرر المرأة ولتحرر الرجل على حد سواء. فتحرر المرأة جزء من إستراتيجية شمولية لتحرر البروليتاريا، لكنه جزء هام وذو خصوصية لابد من إدراكها لتكتمل صورة النضال من أجل تعميق تحرر المجتمع ككل. فهل تمت الإجابة عن هذه الإشكالية لحد الآن وهل وجدت صيغها النظرية والعملية في تجارب تاريخية ملموسة؟
يضيق الحيز عن الجواب على هذا السؤال، لكن إجمالا يمكن القول أن الثورات الاشتراكية الأصيلة قدمت الكثير في هذا الباب. ومع ذلك يستدعي المنطق الثوري للاشتراكية ضرورة قيام النساء بثورة داخل الثورة لتحطيم آخر قيود تحررهن والتقدم نحو بناء المجتمع الشيوعي.
حرر في السجن المركزي القنيطرة: 23 غشت 1983
فؤاد الهيلالي
أهم المراجع المعتمدة من طرف الكاتب:
1. كتاب "تحرير المرأة" (بالفرنسية Bibliothèque Laffont) غلوريا ستيرنيم
2. كتاب "الجنس الآخر" (بالفرنسية: Le deuxième sexe) سيمون ذو بوفوار.
3. كتاب "تاريخ الحركات النسائية في فرنسا" (Maité Abistur et Daniel Armogathe).
4. كتاب "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة" فريدريك انجلس.
5. كتاب "المرأة والاشتراكية" أغست بييل.
6. كتاب "محاضرات حول تحرر المرأة" ألكسندرا كولونطاي.
7. كتاب "المرأة الجديدة" ألكسندرا كولونطاي.
8. كتاب "الماركسية والثورة الجنسية" ألكسندرا كولونطاي
9. كتاب "الثالوث المحرم" هادي العلوي.
10. كتاب "الثورة الجنسية" ويلهلم رايخ.
11.مقالة "النساء: طائفة، طبقة أو جنس مضطهد؟" إيفلين ريد.
12. كتاب "موجز الاقتصاد الماركسي" أرنيست مانديل (حول مفهوم الفائض).
13.كتاب "الرأسمال" كارل ماركس (حول سيرورة تطور التبادل انظر فصل التبادل، الكتاب الأول).
14. كتاب "المخطوطات الاقتصادية والفلسفية" كارل ماركس.
15. كتاب "الجمهورية" أفلاطون.
16. كتاب "الجنس والغرب" Jean Louis Flandrien (Editions Seuil).
17. مقالة "الفرويدية وأسطورة دونية المرأة" بيتي فريدان. (Petty Fridan) (دراسات عربية عدد يناير 1982).
18. كتاب "وظيفة النشوة الجنسية" (La fonction de l orgasme) ويلهلم رايخ.
19. كتاب "المرأة والجنس" نوال السعداوي.
20. كتاب "المرأة هي الأصل" نوال السعداوي.
هوامش:
1. تنتقد بوفوار انجلس حول كتابه أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة" في القضايا التالية:
انجلس حسب بوفوار يقيم خلطا بين تعارضين: - التعارض بين الجنسين و- التعارض الطبقي.
لذلك اعتبر (حسب بوفوار دائما) أن نظام الملكية الخاصة هو أصل ومنبع الصراع القائم بين المرأة والرجل. تعتبر بوفوار أن وجود المجتمع الأموي مجرد وهم لأنه لم تكن تبعية النساء منعدمة في البداية ثم نشأت هكذا في يوم من الأيام. ثم إن السلطة، الأطفال، الأرض كانت دائما ملكا للرجل رغم ما كان من تأليه للمرأة وتقديس لها (المرأة الإلهة والساحرة)، ولكن في العصور القديمة الأولى نلاحظ الفصل القائم بين الأنشطة والأعمال التي هي من اختصاص الرجل وتلك التي تختص بها النساء. إن المرأة تنجب الأطفال بقدر ما تسمح لها حياتها الجنسية بذلك وبخلاف الحيوانات لا تعرف فترات العقم. إن هذا الثقل الذي يبقيها في المنزل، يمنعها من ممارسة سلطتها على العالم. الرجل يخضع الطبيعة لرغباته، يخترع الأدوات ويتقنها، يعين نفسه رئيسا (Chef) لأنه هو الذي يأتي بالمواد الضرورية للعيش" (المصدر كتاب "الجنس الآخر") ملحوظة: لا ننوي هنا القيام بنقد لأطروحة بوفوار ولكن قمنا بتقديم الطرح المناقض لها عبر استشهاد من مقالة إيفلين ريد التي تطابق الطرح الماركسي. وللمزيد من التدقيق انظر كتابنا "حول مرجعيتنا الماركسية في العمل النسائي".
2. في حديثنا حول أنواع الزواج في المشاعات البدائية اكتفينا بشكلين فقط وللمزيد من التعميق انظر كتاب: "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة" لفريدريك انجلس.
3. نموذج مريم العذراء الأم يشير إلى أن المرأة إذا أرادت أن ترتقي إلى الله عليها أن تتخلى عن جسدها لصالح خدمة الله والتكفير عن الخطيئة الأصلية.