في يوم 20 ماي حوالي الساعة 11 ليلا، انتزع الموت رشيدة الهلالي أخت الرفيق فؤاد الهلالي، بعد صراع مرير مع المرض والظروف السيئة للمستشفى الذي كانت ترقد فيه، حيث تسود العقلية التجارية والابتزاز في التعامل مع المريض وعدم الكفاءة، مما جعل التعامل مع المرض جاء متأخرا بعد انتظار طويل لنتائج التحليلات التي تم إرسالها إلى فرنسا.
ولدت رشيدة الهلالي في 2 مارس 1954، بحي القصبة (الأوداية) بالرباط، متزوجة من البروفيسور عبد الحفيظ الهاشمي، لها ثلاثة أبناء، هم الدكتورة مريم، محمد ويوسف.
عاشت رشيدة الهلالي ككل مواطنة مغربية في ظل سنوات الرصاص متابعة لنشاط أخيها النضالي، تحضر بعض المهرجانات والمسيرات، بل حتى ندوات، منها الندوة المنظمة من طرف الحركة الطلابية المغربية بكلية العلوم بالرباط، والتي حضرها أساطين الأحزاب الإصلاحية، ومنهم علال الفاسي ومحمد لخصاصي وغيرهما، وعرفت القاعة صراعا حادا حول القضية الفلسطينية بين القوى الإصلاحية وتيار اليسار الثوري الطلابي.
وباتصال مع الرفيق فؤاد الهلالي، وبعد تقديم واجب التعزية، سألنا الرفيق حول بعض المعطيات الخاصة بأخته رشيدة الهلالي، وبعد إلحاحنا، وافق بالإيجاب قائلا:
"لاشك أن تاريخ الشعوب الحقيقي لم يكتب بعد، ولم أكن مستعدا للحديث في هذا الموضوع، لأنني قد تركته للمذكرات، التي سيحين وقت كتابتها والإفصاح من خلالها على العديد من المعطيات والأحداث غير المعروفة، ومما يمكن قوله، أن فقدان الأخت كان خسارة كبيرة، لأنها شاركتني أجزاء هامة من حياتي، حيث لم تكن مجرد أخت، بل كانت كذلك صديقة وفية، وتعود بي الذكرى إلى فترة 1970 – 1973 في أوج سنوات القمع والإرهاب، بل تعود بي الذاكرة إلى ما قبل 1970 عندما كان منزلنا يعرف انعقاد اجتماعات متتالية من طرف مجموعة من التلاميذ (حوالي 20 تلميذ وتلميذة) كانوا يحاولون وضع الأسس لبناء منظمة ماركسية – لينينية مغربية، وكانت الأخت بمثابة الداعم لهذه الاجتماعات عن طريق توفير المشروبات والمأكولات للمجتمعين، كانت تفعل ذلك بتلقائية كبيرة ودون طرح الأسئلة، لكن ستكشف رشيدة الهلالي عن معدنها الحقيقي خلال حقبة 70 – 73 بعد تأسيس المنظمة الماركسية – اللينينية المغربية "إلى الأمام"، حيث تحول المنزل رقم 5 القائم في زنقة زيرارة بقصبة الأوداية إلى مقر للاجتماعات الأولى للمنظمة، و التي أدت إلى تأسيس فرع المنظمة بمدينة الرباط و سلا، و خلق العديد من الخلايا في أهم ثانويات الرباط و سلا (ثانوية الليمون، ثانوية مولاي يوسف، ثانوية الحسن الثاني، ثانوية نزهة، ثانوية عائشة، مدارس محمد الخامس بمدينة الرباط، و ثانوية النهضة و بلاطو بسلا) و على إثرها تشكلت تنسيقية العمل في الثانوي، و التي كانت بمثابة القيادة بالنسبة لثانويات الرباط و سلا، التي أشرفت على نضالات 1970 –1972في الثانويات قبل تأسيس النقابة الوطنية للتلاميذ في 22 أبريل 1972، ومن أعضاء هذه التنسيقية، الراحلين لحرش الصديق وفلاح عبد الرؤوف والهلالي فؤاد و بابريك، وإقبال. وكانت التنسيقية تصدر نشرة تحت اسم "المشعل" يتم طبعها بالآلة الفيتنامية (ليمونيير). وقد تحول المنزل أعلاه إلى مقر للاجتماعات الطلابية (من الخلايا الطلابية التي كانت تجتمع بالمنزل، خلية جياب الطلابية، التي كان من أعضائها مصطفى التمسماني و مجيد و مصطفى خلال، وكانت خلية تشرف على العمل في كلية الآداب في الرباط وباقي الكليات)، كما كان المنزل مقرا لطبع بعض الوثائق، وكذلك مكانا لاجتماع الحلقات التكوينية، ومن هذا المنزل انطلق العمل من أجل بناء خلايا الأحياء الشعبية، التي تشكلت في كل من حي القصبة والعكاري ويعقوب المنصور والتقدم، وكان يشرف على هذا العمل الراحل أحمد الفصاص و بوجمعة الزنزوني و فؤاد الهلالي.
كما كان المنزل، إلى جانب منزل الحرش الصديق، في باب سيدي بوحاجة بسلا، أحد المقرات لاجتماعات اللجنة المحلية لمنظمة "إلى الأمام" (قيادة الفرع).
وباختصار حضر الاجتماعات في هذا المنزل التاريخي العديد من الأسماء في إطار تنظيمات وهياكل مختلفة تابعة لمنظمة "إلى الأمام" أذكر منها:
ادريس بنزكري (تلميذ بثانوية الحسن الثاني بالرباط) حميد بنزكري (تلميذ بثانوية الليمون بالرباط) فلاح عبد الرؤوف (طالب بكلية الآداب شعبة الفلسفة) علي فقير (طالب في المعهد الوطني للإحصاء) لحرش الصديق (موظف بالسكك الحديدية) أحمد لفصاص (أستاذ الفلسفة) بوجمعة الزنزوني (طالب بكلية العلوم) عبد اللطيف اللعبي (أستاذ اللغة الفرنسية بثانوية الليمون ومدير مجلة "أنفاس" المغربية) و زهور بنشمسي (أول أخصائية في التحليل النفسي بالمغرب) و عشرات آخرين.
لقد كانت رشيدة الهلالي تعرف جميع الرفاق والرفيقات من خلال وجوههم (لم تكن الأسماء معلنة)، وكانت هي من يفتح الباب لهم بعد تأكدها من خلو المكان من الجواسيس والمخبرين، من خلال النوافذ التي تطل على خارج المنزل، ومن خلال سطح المنزل، وبطبيعة الحال هي من يهيئ الشاي والقهوة للمجتمعين.
و ظلت رشيدة على عادتها هذه إلى أن حل يوم 12 دجنبر 1973، حيث حاصرت أجهزة الأمن المختلفة حي القصبة و المنزل رقم 5 في محاولة لاعتقالي، وفي جو من الإرهاب يحاصر المكان، و في استعراض للقوة، جرت المحاولة الأولى لاقتحام المنزل إلا أنها باءت بالفشل، حيث أقفل باب المنزل المتين (من خشب العرعار) من الداخل، ودارت معركة الاقتحام بين أفراد الأسرة ومن بينهم رشيدة وقوات القمع، معركة غير متكافئة حاولت خلالها قوات القمع اختطاف الوالدة، وباءت بالفشل نتيجة تمويهها باستعمال ملابس رثة لإبعاد الأنظار عنها، بينما استطاع البوليس السري اختطاف الأب ونقله إلى الدائرة الثانية (الدوزيام) حيث تعرض تقريبا خلال عشرة أيام للتعذيب، لانتزاع معلومات عن مكان وجودي (لم أكن خلال هذا الاقتحام بالمنزل وكنت أحضر أحد الاجتماعات بسلا)، وعندما أقسم الأب بالله أنه لا يعرف مكان تواجدي، أجابه الكوميسير المسؤول عن التعذيب أنه هو الله بنفسه، وبأنه لن يخرج حيا من هنا، وهو أمر لم ينسه أبي أبدا.
وخلال هذه المعركة قامت رشيدة بأمران هامان، أولهما تنظيم عملية إخباري بالاقتحام الذي حصل، واعتقال الأب، وذلك قبل وصولي إلى مشارف حي القصبة، حيث كنت عائدا من الاجتماع المذكور آنفا، وبالفعل تمكنت من الفرار، حيث سألتحق بمدينة الدار البيضاء، التي سأظل بها إلى حدود يوم اعتقالي في 30 يناير 1975.
أما المسألة الثانية، فتتمثل في مساهمة رشيدة في تأخير اقتحام المنزل إلى جانب إخوتي الآخرين، وذلك لتستطيع إفراغ المنزل من الوثائق والكتب، وبالفعل كان المنزل يضم كثيرا من وثائق المنظمة منذ تأسيسها، ومكتبة هامة تضم أمهات الكتب الماركسية، وتمثل دور رشيدة في وضع الوثائق في صناديق كرطونية تم تنظيم تهريبها من خلال نوافذ المنزل المطلة على البحر، حيث وصل ليلا الرفيقان عبد القادر أمصري ومحمد الرحوي وتم تسلمها بعد إنزالها إلى أسفل السور المحيط بالنوافذ مشدودة بالحبائل، وتم نقلها إلى أماكن آمنة، أما باقي الوثائق والكتب فقامت رشيدة بإخفائها عن طريق وضعها في مكان من البيت والإغلاق عليها بالآجور، حيث ظلت هناك مددا طويلة، وبهذا العمل تكون رشيدة الهلالي المواطنة العادية قد جنبت أخاها المناضل من الاعتقال، كما جنبت المنظمة من خطر سقوط الوثائق، بعضها تنظيمي، في يد الأجهزة القمعية، وسمح ذلك باستمرار المنظمة بشكل عادي في نشاطها الثوري.
ومن ذكريات هذا الوضع المشحون، أنه ذات يوم جاء الرفيق لحرش الصديق إلى منزلنا، ولم يكن على علم بما يقع، ودق الباب، فأجابته رشيدة دون أن تفتح الباب بضرورة الفرار مخبرة إياه بما يحصل، وبالفعل استطاع الرفيق الصديق لحرش العارف بأزقة الأوداية أن يفر عبر تلك الأزقة وصولا إلى مصب نهر أبي رقراق، ومن حسن حظه أن البحر كان في وضعية جزر، مما سمح له بالانتقال إلى اليابسة مشيا على الأقدام و وصولا إلى مرسى الرباط، ومن هناك غادر إلى سلا مقر سكناه بسيدي بوحاجة.
بهذه الأعمال البطولية وهذا السلوك الشهم، الذي لا يمكن أن يقدم عليه إلا مناضلين ورفاق متمرسين ومعنيين مباشرة بالنضال الثوري، تكون الأخت رشيدة المواطنة البسيطة، قد أبانت عن الخصال الرائعة التي يحتضنها شعبنا، وبذلك تكون قد أعطت المثل عن التضحية والتفاني ونكران الذات والدفاع عن الكرامة ورفض الاضطهاد والإهانة، وبذلك تستحق مني الأخت رشيدة كامل العرفان والجميل، وستبقى خالدة في ذاكرتي وذاكرة المناضلين.
فوداعا رشيدة، وداعا الأخت والصديقة، لن أنساك أبدا، ولترقد روحك في سلام ".
27 ماي 2024