في ذكرى عرس الثورة و الثوار، ذكرى مجد الصمود و المقاومة و التباث
وعد فخر على جبين كل الماركسيين ــ اللينينيين
وصمة عار على جبين كل الانتهازيين و التحريفيين
الذكرى التاسعة و الثلاثون على استشهاد المناضلة الثورية الماركسية ــ اللينينية : سعيدة لمنبهي.
نبذة مختصرة عن حياة سعيدة لمنبهي
تاريخ الولادة: 1952
المكان: مدينة مراكش
المهنة: أستاذة الإنجليزية بالرباط
تاريخ الاعتقال: 16 يناير 1976
السن عند الاعتقال: 24 سنة
الحكم الصادر: 5 سنوات + سنتان
تاريخ صدور الحكم: 14 فبراير1977
تاريخ الاستشهاد: 11 دجنبر 1977
مكان الاستشهاد: مستشفى ابن رشد - الدار البيضاء
السن عند الاستشهاد: 25 سنة
الولادة والنشأة و الانتماء النضالي
كان البلد المغرب، قطعة من جغرافية هذه الأرض، يوجد في شمال غرب إفريقيا أو غرب المغرب الكبير، و كانت المدينة /مراكش، الحمراء إحدى أقدم عواصم المغرب التاريخية، أسسها المرابطون و جعلوها عاصمة لحكمهم، مدينة التاريخ و الجغرافيا الجميلة، هي أيضا مدينة الكلاوي، الباشا الإقطاعي و عميل الاستعمار الفرنسي و الذي جعل منها مقر إقامته والذي أذاق ساكنتها كل صنوف العذاب و التي لا زالت ذاكرة المراكشيين تحكي عنه و عنها إلى اليوم. مراكش أيضا مدينة المقاومة ضد الاستعمار و عملائه، مدينة الشهيد حمان الفطواكي المقاوم الذي أعدمه الاستعمار، مراكش و ألف حديث وحديث...
في ذات سنة، سنة 1952 سنة من سنوات الجمر، التي كانت تقطعها البلاد في تحد عنيد للاستعمار وأركانه، سنة الانتفاضة العمالية والشعبية بمدينة الدار البيضاء، بعد اغتيال الشهيد فرحات حشاد، الزعيم النقابي بتونس، اندلعت انتفاضة الكريان سنترال أحد أحياء البيضاء الصفيحية حيث كان يتكدس عشرات الآلاف من العمال والكادحين والفقراء،هي إذن سنة انتفاضة مارس 52 التي ستعلن نهاية سنوات المخاض التي بدأت مع انتفاضة وادي زم 1948 و دخول الطبقة العاملة على خط المقاومة الجذرية وانطلاق المقاومة المسلحة بعد ذلك.
في هذه السنة كانت ولادة سعيدة لمنبهي وذلك يوم 16 شتنبر
كان يوما عاديا و لا شك كباقي أيام السنة لدى المراكشيين لولا أنه في هذا اليوم كان أحد بيوت المدينة و هو منزل ذو بوابتين إحداهما تطل على حي دوار كراوة والأخرى صوب رياض الزيتون، يعج بحركية غير عادية، الأم فخيته بلكبير الهيلالي تضع مولودة جديدة، مفجرة فرح الزوج وأسرتها الصغيرة، أطلق على المولودة اسم سعيدة و كانت السعادة تملأ البيت الأسري. في ذلك البيت أطلقت سعيدة صرخة الحياة الأولى لتبدأ المشوار في أحضان أبويها وإخوانها محاطة بالحب والحنان. سنوات بعد ذلك، ستلتحق سعيدة بمدرسة "قبور الشهداء" ("قبور الشو" كما ينطقها المراكشيون) الابتدائية، و قد اجتازت سعيدة هذه المرحلة بنجاح لتنتقل إلى مؤسسة "أبو العباس السبتي" (الإعدادية والثانوية) لتحصل على البكالوريا سنة 1971، منتقلة بعد ذلك إلى الدراسة الجامعية.
كانت الرباط وجهتها التالية لاستكمال دراستها الجامعية و ذلك سنة 1972، الرباط، تلك المدينة التي بناها الموحدون لتصبح بقرار من الماريشال ليوطي العاصمة الإدارية للبلاد منذ الحقبة الاستعمارية.
الرباط المدينة القائمة على شاطئ الأطلنطي هي وتوأمها سلا. المدينة الجامعية الرئيسية للبلاد آنذاك حيث كان أغلب طلاب البلاد يتوجهون إليها لمتابعة دراستهم الجامعية.
في هذه السنة التي التحقت فيها الشهيدة بالجامعة كانت نضالات قوية و معارك ضارية تخوضها الحركة التلاميذية والطلابية وأصداء نضالات جماهيرية تنفجر في كل مكان.
كانت سنة 1972 سنة كل الاحتمالات ، حيث صعود اليسار الثوري الماركسي – اللينيني وتحمله مسؤولية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، (في غشت 1972سينعقد المؤتمر 15 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب " أ.و.ط.م") و في 22 أبريل من نفس السنة سيتم الإعلان عن تأسيس النقابة الوطنية للتلاميذ (ن. و. ت). في السنة نفسها ستكون محاولة الانقلاب التي قادها المجرم أوفقير ضد الملك رأس النظام الكمبرادوري القائم كتعبيرعن تناقضات حادة داخل التحالف الطبقي السائد.
في أجواء ملتهبة، وصراعات إيديولوجية وسياسية داخل الجامعة، وفي خضم أجواء نضالية تخيم على البلاد ضدا على القمع الأسود والاستغلال والاضطهاد والاستبداد السياسي، تابعت سعيدة دراستها بشعبة الإنجليزية بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية، وانخرطت منذ البداية في النضال داخل كلية الآداب معقل اليسار الثوري الماركسي اللينيني فتحملت المسؤولية داخل تعاضدية كلية الآداب لسنتي 72-73 باسم "الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين". استكملت سعيدة تكوينها كأستاذة للسلك الأول بالمركز التربوي الجهوي الذي ستتخرج منه كأستاذة لمادة الانجليزية بإعدادية الخوارزمي بالرباط، و ستنخرط مباشرة بعد التحاقها بالعمل في النقابة الوطنية للتعليم التابعة للاتحاد المغربي للشغل كمناضلة نقابية.
خلال هذه السنة، سنة 72، سيدشن النظام الرجعي حملة واسعة ضد اليسار الثوري الماركسي اللينيني مست العديد من أطر منظمتي "أ" و "ب" ( "إلى الأمام" و23 مارس لاحقا)، كما تعرضت الحركة الطلابية للقمع الشرس من خلال اختطاف العديد من مناضليها و مسئوليها ومتابعة ومطاردة الآخرين. ولم تتوقف الحملة بعد صعود اليسار الثوري إلى قيادة أوطم بل تصاعدت إلى حدود إقدام النظام على حل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في 24 يناير 1973، فانخرطت سعيدة في النضال من خلال مساهمتها في المظاهرات المنددة بالقرار الرجعي دفاعا عن أوطم وخطها النقابي الثوري واستمرارا لكفاحها العنيد ومن أجل الصمود في وجه الإعصار مجسدة شعار الصمود والارتباط بالجماهير الذي رفعته منظمة "إلى الأمام" في وجه إحدى أعتا الحملات القمعية التي أطلقها النظام "الفاشي" ضد الحركة الجماهيرية والقوى التقدمية والثورية.
سعيدة لمنبهي هي أيضا ابنة منظمة" إلى الأمام"، فسعيدة التي حظيت دائما بحب أسرتها كبرت ونقلت معها الحب والمودة والصداقة و الرفاقية إلى كل من تقاطعت معهم على طريق حياتها كإنسانة وكمناضلة ثورية مؤمنة دائما بالحق في الثورة.
سعيدة التي خبرت سبل النضال داخل الحركة التلاميذية بثانوية "أبو العباس السبتي" بمراكش، وكمناضلة بكلية الآداب للاتحاد الوطني لطلبة المغرب والجبهة الموحدة للطلبة التقدميين وكمناضلة نقابية بالاتحاد المغربي للشغل، سعيدة المناضلة العنيدة، المشبعة بالأمل والتفاؤل الثوري والمتشبعة بالفكر الماركسي اللينيني والتواقة إلى تحرر المجتمع مجتمع الرجال والنساء المتساوين في كل شيء، سعيدة في إحدى أحلك ظروف القمع الأسود الذي طال البلاد والعباد على يد نظام ديكتاتوري مصاص للدماء، في مغرب الاعتقالات والمحاكمات الصورية والطرود الملغومة والإعدامات، في مغرب تازمامارت، الكمبليكس، درب مولاي الشريف، اكدز، دار المقري وغيرها... في مغرب "الجدران لها آذان" حسب التعبير السائد وحيث حيازة كتاب شبهة، وقراءة جريدة شبهة، والتضامن مع فلسطين شبهة ووو...سعيدة وهي كل تلك الخصال الثورية سعيدة التي كانت تعيش كل تلك الظروف ستتخذ قرار انخراطها في المنظمة الماركسية اللينينية "إلى الأمام" لتواصل النضال من أجل دولة ديمقراطية شعبية ومن أجل الاشتراكية. ومن موقع عضويتها لإحدى خلايا المنظمة ومسؤوليتها التنظيمية داخلها (كانت سعيدة مسؤولة عن خلية بالرباط- سلا) شرفت سعيدة المرأة المناضلة بثباتها وإقدامها وجرأتها وصمودها في أحلك لحظات المواجهة والتحدي عند نقل الوثائق السرية، أو توزيع المناشير السرية، أو القيام بأعمال التمويه لكراء المنازل (المستعملة كمقرات سرية للمنظمة) أو عند أعمال الرصد وضبط المواعيد أو عند لزوم الحزم لمواجهة خطر داهم أو لطمأنة مناضل أو رفيق لازال في بداية النضال، سعيدة الرفيقة جديرة بنساء المقاومة الفرنسية أو الجزائرية من أمثال جميلة بوحيرد وغيرها. كيف لا تكون كذلك وصدى المرأة المغربية المقاومة مستمر، من المقاومة الأولى ضد الاستعمار في جبال الأطلس وغيرها إلى النضال إبان الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة في الخمسينات إلى نضال العاملات والفلاحات والطالبات والكادحات في المعامل والبوادي والجامعة وفي الأحياء الشعبية.
لقد مزقت سعيدة حجاب النضال عن المرأة لتفتح طريق نضالها الطويل ضد شروط اضطهادها المزدوج ومن أجل مجتمع المساواة الحقيقية بين الرجال والنساء.
كانت سعيدة من المناضلات الأوائل اللواتي فتحن طريق النضال النسائي الثوري ببلادنا، بل كانت أول من مهد له وفجر ينابيعه بشفافية ووضوح وصدق وإرادة لا تلين. لم تكن سعيدة لترضى بأنصاف الحلول و حتى في سلوكها اليومي كامرأة وإنسانة كانت صادقة ونزيهة لا تعرف المساومة على حريتها وحرية الآخرين. سعيدة التي لم يمهلها الموت وغادرتنا في مقتبل العمر تركت لنا قصائدها ورسائلها الى عائلتها وبحثا أو مقال لم يكتب له أن يتم. لو أعدنا قراءته لأدركنا الكثير من أفكارها وقيمها النضالية كامرأة رفعت صوتها ضد الاضطهاد المزدوج للنساء ومن اجل تحررهن تحررا كاملا وشاملا. فبمقدمات منهجية تاريخية واعتمادا على نظرة ثاقبة مسلحة بفكر ثوري، تناولت سعيدة الكتابة في موضوع شائك يتعلق بمن يطلق عليهن "النساء العاهرات". فقد قدمت سعيدة نظرتها للتاريخ قائلة" لم يعد التاريخ تاريخا للأسر الحاكمة و لا يحق للمؤرخين المزيفين أن يكتبوا تاريخ شعب، فالناس هم من يصنعون التاريخ بدمائهم.وهذا التاريخ يسجل ذلك الإرهاب الذي يزرعه النظام الرجعي في صفوف الشعب عن طريق أجهزته القمعية....."
"وحدها الإديلوجية الماركسية اللينينية، إيدلوجية كل الشعوب المستغلة تستطيع أن تنتزع البلاد من نير الإمبريالية والإقطاعية خادمتها المخلصة".
بالنسبة لسعيدة لمنبهي ف " الانحلال والفساد في مجتمع ما تولده طبيعة هذا المجتمع نفسه: المجتمع الرأسمالي باعتباره نظاما استغلال ولا عدالة اجتماعية يغذي مختلف مظاهر الانحلال :الفساد و العهارة."
"من المؤكد، أنه في مجتمع طبقي وفي ظل نظام مفروض على الجماهير من طرف الاستعمار و الامبريالية من أجل الحفاظ على مصالحهما الاقتصادية والسياسية، فالعهارة، الرذيلة والرشوة هي مظاهر ملازمة لهذا النظام. إنها مظاهر يتم نشرها و تشجيعها. الشعب في ظل نظام لا وطني يتعرض للفقر الأكثر قتامة"
في نظر سعيدة فالمرأة المغربية تعاني من استغلال مزدوج " في هذا المناخ الذي يمكن وصفه بالفاشي، لا يمكن لنا أن ننسى الاستغلال المزدوج الذي تتعرض له المرأة في بلد متخلف وتابع. هذا الوضع الخاص للمرأة المغربية، التي تتعرض لمظهرين من الاستغلال: استغلال من طرف النظام مثلها مثل الرجل واستغلال من طرف هذا الرجل نفسه، هو ظاهرة اجتماعية متولدة تلازميا وفي نفس الوقت من طبيعة البنيات الاقتصادية –السياسية و الاجتماعية القائمة. فمن الطبيعي أن تعتبر المرأة في ظل نظام بطريركي مجرد كائن تابع ليس بإمكانه لا امتلاك الأرض ولا اختيار الزوج أو الانفصال عنه، ليس لها إلا وضعية القاصر......"
من خلال مقالها المكتوب من داخل السجن سنة 1976 قدمت سعيدة الأستاذة المتخرجة من المركز التربوي الجهوي بالرباط درسا في البيداغوجية الثورية. فهي لم تنجز بحثها إلا بعد أن انبنت بينها وبين تلك النساء ضحايا المجتمع الطبقي ثقة متبادلة وفي هذا الصدد تقول سعيدة " بيننا وبين هؤلاء النساء حصل تعاطف كبير" وفي مكان آخر على هامش المقال كتبت تقول" بعض الناس حين يتكلمون عن عاهرة يقولونها بنبرة احتقار. نحن نعطي لهؤلاء النساء ضحايا الاستغلال كل الاحترام الذي يمكن أن يستحقن".
في نظر سعيدة هؤلاء النساء كن مرغمات في ظل "نظام لا يهيأ للشباب سوى طريق المخدرات والكحول أو طريق السجن والتعذيب بالنسبة لأولئك الذين اختاروا النضال ضده" .ولتكريس الاستعباد و الإستيلاب ترى سعيدة أن "الاستعمال الديماغوجي للدين يسمح بتعزيز الاستغلال و الإستيلاب و الاستعباد بالنسبة للمرأة".
أدركت سعيدة جيدا الطبيعة الطبقية للعهارة من خلال دراستها للفئات الثلاث التي تنتمي لهن النساء اللواتي يمتهنها (اللمبن-بروليتاريا،البورجوازية الصغيرة،الفئات"الراقية"). ثلاث فئات من العاهرات لثلاث أنواع من الطلب في سوق المتاجرة بجسد المرأة.
وفي محاولة لسبر غور وعيهن الطبقي والجنسي وقفت سعيدة على ذلك الوعي الحسي لديهن الذي يظل ذا أفق مستلب. فهن يعرفن من هم أعداؤهن ويعرفن أن الدولة متعفنة وغير عادلة لكنهن لا يعرفن ما هي الحلول، محتميات بعامل الزمن، معتقدات أن هذا الأخير خارج أي عمل ملموس كفيل بتغيير واقعهن. وخلصت سعيدة إلى القول أن كل هؤلاء النساء والمرأة بشكل عام لا يمكنهن أن يعرفن تغييرا لوضعية استغلالهن المزدوج إلا إذا اكتسبن وعيا طبقيا وعملن من اجل تغيير جذري للمجتمع ومن اجل بناء مجتمع اشتراكي يمنح للمرأة حقوقها الفعلية أي المساواة التامة مع الرجل ودور فعلي في الإنتاج ومساهمة حقيقية في الحياة السياسية لبلدها.إن تحرير المجتمع كله هو مهمة المرأة والرجل على حد سواء وعلى رأس هذا المجتمع العمال والفلاحون.
ونحن نقرأ هاته الأسطر،يدرك كل المناضلين المخلصين و المناضلات المخلصات جسامة الخسارة بفقدان سعيدة ذلك الاسم الرمز، ذلك العنوان لوطن جريح مستباح والذي لا زالت المرأة تعاني فيه من كل أصناف وفنون الاضطهاد المزدوج فنزداد حماسا للنضال لأن لنا سعيدة في القلوب.
امرأة بهذا الطموح، بهذا الفكر و هذا الحب للشعب، سعيدة ابنة" إلى الأمام"سيكون لها نصيب وافر مما تعرضت له المنظمة من اعتقالات و اختطافات و تعذيب.
16 يناير1976: يوم الاعتقال
في هذا اليوم من سنة 1976 ستكون سعيدة على موعد ليس ككل المواعيد، ستكون على موعد نحو الدهاليز المظلمة، حيث سترى هناك كل أصناف القبح و الخس، سترى هناك أناس ما هم بأناس، بشر لا كالبشر، ممارسات لا كالممارسات.
كانت سعيدة مواظبة على زيارة أختها خديجة وابنتها فدوى والتي كانت تحبها كثيرا. وفي إحدى أيام يناير الباردة من سنة 76 تدلي لأختها بإمكانية اعتقالها انطلاقا من فرضية اعتقال الرفيق الذي كانت تشاطره مقر سكناها والذي غاب عن الأنظار منذ 48 ساعة، ولم تكن تعرف الجواب عما إذا كان قد اعتقل أم لا.
لم تضيع سعيدة كثيرا من الوقت قبل أن تتوجه إلى مقر سكناها لإفراغه من كل ما يمكن أن يهدد أمن الرفاق وأمن المنظمة من مناشير، وثائق ومعلومات تفيد القمع.
يوم 16 يناير: الساعة السادسة مساء:
كان الوقت مساء وكانت الشمس قد أكملت دورة غروبها، وغابت وراء الآفاق منذ مدة، فأرخى الليل سدوله على المدينة وخيم الظلام عليها، وكان مساء باردا يلفح وجه المدينة ، تقف سعيدة أمام الأستوديو الذي تسكنه والذي يقع بحي مدغشقر بالرباط قرب المحكمة الابتدائية حاليا. كانت الساعة السادسة مساء حين وصلت لمنزلها بعد زيارة لأختها خديجة.
ما أن فتحت الباب وحملقت بعينيها الواسعتين في جوانب غرفتها حتى لمحت أن كل شيء في البيت قد انقلب رأسا على عقب: ملابسها، كتبها وأغراضها المختلفة وكأن عاصفة قد مرت من هناك و أصابت الأستوديو.
كانت سعيدة ساهمة البال شاردة الذهن، لقد أدركت بحسها أن اللحظة التي حدست وقوعها قد أصبحت حقيقة. وقبل أن يرتد بصرها و يتشكل رد فعلها ،كان أربعة من الكلاب المدربة من رجال المجرم اليوسفي قدور قاتل الشهيد عبد اللطيف زروال قد انقضوا عليها انقضاض ذئب على فريسته، فريسة ثمينة و كنز غالي لا يقدر بثمن واضعين القيد بمعصميها والعصابة السوداء على عينيها لتنقل، تحت وابل من السباب والنعوت المحقرة للمرأة وللمناضلة، إلى المعتقل السيئ الذكر "درب مولاي الشريف" أو" الدرب" كما يطلق عليه اختصارا لتبدأ رحلة أخرى من حياتها النضالية في مواجهة جلاديها الذين وضعهم النظام الفاشي للتنكيل بالمناضلين وتحطيم كل أشكال وروح المقاومة ضد النهب والاستغلال والاضطهاد التي يمارسها على الشعب المغربي. قضت سعيدة ثلاثة أشهر بالدرب إلى جانب رفاقها ورفيقاتها الذين حصدتهم الحملة الثانية الكبيرة ضد منظمة "إلى الأمام" ابتداء من سنة يناير 76.
كان نصيب سعيدة كبيرا من التعذيب النفسي والجسدي كمناضلة وكامرأة مناضلة داخل المعتقل السري السيئ الذكر، حيث كل الوسائل تستعمل بلا حدود من طرف زبانية النظام وكلابه المسعورة لتحطيم المعنويات وتكسير الإرادة الثورية لدى المناضلين. وباعتبارها امرأة عانت سعيدة من العقلية الذكورية الوحشية للجلادين الحاطة من كرامة المرأة وإنسانيتها الشئ الذي لم تنساه وهي تقف أمام القضاة الوجه المقنع للجلاد في دولة اللا قانون و الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. أمام قضاتها في المحكمة انتصبت سعيدة بدورها لتحاكم جلاديها في مداخلة دخلت تاريخ النضال السياسي بالبلاد عموما والنضال النسائي خصوصا، لقد صرخت في وجه رئيس المحكمة الذي كان يطبق بالحرف توجيهات النظام وأجهزته القمعية: "لقد عذبوني، وصفت بأسوأ النعوت التي أخجل أن أذكر ولو واحدة منها، كم هو معيب و منحط مجرد التفكير بوجود رجال يعاملون امرأة بهذه الطريقة،و يجعلني أصاب بقشعريرة و يثير استنكاري وغضبي.
فكيف لا أكون مسيسة؟ كيف لا أناضل لتحسين وضعية المرأة؟
لقد اخترت الرجل الذي أردت أن يشاركني حياتي. وهل الطلاق ممنوع بالنسبة لامرأة؟ يتعلق الأمر بحياتي الخاصة."
اهتزت المحكمة بالتصفيقات عندما أعلنت سعيدة تنديدها بأوضاع الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة المغربية، وبذلك تكون أول امرأة فعلت ذلك ببلادنا وأمام قضاتها المؤتمرين بأوامر أسيادهم. لقد كانت سعيدة منسجمة مع قناعاتها حتى النهاية غير مبالية بمحاولة الجلاد والقاضي ذلك الجلاد الآخر الماس بشرفها وكرامتها كامرأة مناضلة مقتنعة أشد الاقتناع بضرورة تحرير المرأة المغربية.
من درب مولاي الشريف حيث عانت سعيدة كل صنوف التحقير و الحط من الكرامة ستكون وجهتها التالية نحو سجن "عين برجة" ومن تم ستقدم إلى المحكمة ، محكمة الاستئناف بالدار البيضاء وذلك في 3يناير1977.
أمام المحكمة أو الوجه الآخر للجلاد
يطرح القاضي الأسئلة و سعيدة تجيب. ما اسمك؟ أنت متهمة بالمس بأمن الدولة و المس بالسلطة القضائية و و و و... طقس بليد كان لابد للشهيدة أن تعيش أجواءه في شموخ و اعتزاز بالنفس ودون رهبة من القاضي الوجه المقنع للجلاد.
وقفت سعيدة منتصبة القامة مرفوعة الهامة ترد عن أسئلة القاضي (واسمه أحمد افزاز، قاضي جيء به ليمثل دور القضاء تحت توجيهات اليوسفي قدور وأمثاله وسيكافئه النظام على دوره المخزي بجعله على راس ما يسمى بالمجلس العلمي للجهة الشرقية) واثقة بعدالة قضيتها، قضية شعب يعاني من استغلال وقهر واضطهاد نظام مستبد قروسطي، وقفت سعيدة مبتسمة غير مكترثة بمحاولات زعزعة قناعاتها ومنعها من الكلام والتي كان يقوم بها القاضي، محاولات يائسة للعب بأعصابها وجرها إلى حبل الإدانة كما شاء لها. كانت الأجهزة الاستخباراتية، والحاضرة بكثافة داخل قاعة المحاكمة، تتابع التطورات و تراقبها عبر أجهزة وضعت في الطابق السفلي للبناية التي تحتضن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء. كانت الأجهزة الأمنية المختلفة تحاصر البناية من كل الجوانب، وراج خبر متابعة رأس النظام الكمبرادوري لأطوار المحاكمة من خلال أجهزة التصنت التي وضعتها أجهزته. كانت التوجيهات تصل تباعا إلى منصة الرئاسة وكان الرئيس أحمد أفزاز السيئ الصيت يترجمها فورا وبشكل مفضوح مؤكدا بتصرفاته الطابع الصوري للمحاكمة أمام استنكار هيئة الدفاع وغضب المناضلين والمناضلات وعائلات وأسر المعتقلين. أمام هذا الوضع كانت سعيدة واقفة توزع ابتسامتها على الحضور الذي غصت به جنبات قاعة المحكمة تارة، وتارة أخرى يرتسم الغضب على محياها وهي تتذكر صورة الغائب الكبير عن المحاكمة، الشهيد الذي اغتالته أيادي الجلاد اليوسفي قدور الملطخة بالدماء، كان اسم القائد الشهيد عبد اللطيف زروال على كل لسان، كانت روحه تخيم على المكان. تذكرت سعيدة تلك الأغاني الثورية التي كانت ترددها جماعيا مع رفيقاتها ورفاقها وهي تعبر شوارع البيضاء على متن الإسطافيتات البوليسية ( تقول الأغنية: " نريد للجميع، الشغل، الخبز، الفرح، الحرية، سنكسر فولاذ الأسلحة ونصنع خبز الجوعى الضروري...."من الأغاني الثورية الفرنسية)، وعادت إلى ذاكرتها أطوار ذلك الإضراب عن الطعام الذي خاضته مع رفاقها تحت شعار "المحاكمة أو إطلاق السراح" والذي انتزع به الحق في المحاكمة وجعلت النظام يقبل به بعد فشل محاولات الالتفاف والتمطيط والابتزاز التي سخر لها خدامه وأعوانه و انتهازيي الأحزاب الإصلاحية...
كانت رفيقتيها في النضال فاطمة عكاشة وربيعة الفتوح يراقبن باهتمام وقوف سعيدة أمام منصة الاتهام ويبادلنها الابتسامة. (اعتقلت سعيدة وفاطمة وربيعة وبييرا دي ماجيو (المناضلة الإيطالية الصلبة التي رفضت الكلام في الدرب في تحد قوي للجلاد اليوسفي قدور وزبانيته، مجسدة بذلك تقاليد الحركة المناهضة للفاشية في إيطاليا و التي كانت إحدى مقاوماتها...) ضمن نفس الحملة القمعية التي تعرضت لها منظمة "إلى الأمام" ابتداء من يناير76.
بإصرار المناضلات الشيوعيات الماركسيات اللينينيات وبقوة إرادتها انتزعت سعيدة الحق في الكلمة ، مدافعة عن انتمائها إلى منظمة "إلى الأمام" ومتحدية من أرادوا محاكمتها، محاكمة النظام وجلاديه وذلك رغم أجواء التهديدات بمحاكمة عسكرية والحكم بالإعدام التي كان يلوح بها ممثل النيابة العامة وغضب رئيس المحكمة الذي كان فاقدا لصوابه في أغلب أطوار المحاكمة، مما فجر رد فعل قوي لهيئة الدفاع فانتصب أحد المحامين واقفا موجها له بقوة وعناد تحت تصفيقات الحضور:
"القاضي لا يحكم وهو غضبان" مما زاد في حنق الرئيس على هيئة الدفاع، فانفضح دوره أمام الجميع.
عرفت أطوار المحاكمة الصورية التي أقامها النظام لمناضلي الحركة الماركسية –اللينينية المغربية لحظات مثيرة تخللتها الأناشيد والشعارات الثورية، واضطر القاضي الفاشي إلى الهروب من القاعة التي كانت تدوي بعبارات فاشيست، فاشيست، فاشيست.وبعد لحظات يعود أحمد أفزاز بعد استشارة أسياده القابعين في مكان ما يملون عليه ما يجب أن يفعل، ليصدر قراره بمنع "المتهمين" من الحضور الجماعي إلى قاعة المحاكمة، مما ساهم في اندلاع إضراب عن الطعام ضد المساس بالحقوق الأولية للدفاع و"المتهمين".ودام الإضراب 19 يوما حيث كان يحضر المتهمون إلى قاعة المحكمة واحدا واحدا وهم وهن في حالة إضراب عن الطعام.
هكذا ومن قلب الحصار، ورغم التهديد ورغم محاولات إسكات صوتها، تكلمت سعيدة ولم تتراجع مدافعة عن مواقف منظمتها، مطالبة بحل ديمقراطي لقضية الصحراء، ومنددة بظروف الاضطهاد الذي تعاني منها المرأة المغربية ومدافعة عن حريتها في اختيار شريك حياتها ومستنكرة الأساليب الذكورية الوحشية الحاطة من كرامة المرأة والتي مورست في حقها من طرف كلاب اليوسفي قدور المسعورة.
كانت سعيدة تبتسم، كانت عيونها الواسعة الجميلة تحلق في البعيد، كانت شهمة معتزة بانتمائها الشيوعي، حين دوت القاعة بالتصفيقات في تحية حماسية لجرأتها وشجاعتها.
مرت الأيام وانسدل الستار عن تلك المحاكمة الصورية التي أظهرت للعالم طبيعة نظام لا وطني، لا ديمقراطي ولا شعبي.
مرت على المحاكمة شهران منذ انطلاقها في 3 يناير العام 1977، و في إحدى الليالي الباردة وتحت جنح الظلام نقلت سعيدة ورفاقها إلى قاعة المحكمة ليصدر في حقها حكم بخمس سنوات إضافة إلى سنتين بحجة الإساءة للقضاء. صدرت أحكام قاسية في حق مناضلي الحملم (مئات السنوات من السجن: خمس أحكام بالمؤبد، عشرين حكما بثلاثين سنة،45 حكما بعشرين سنة و أكثر من أربعين حكما بعشر سنوات).
كانت أشعة الفجر الأولى ترتسم في الأفق حين احتل المعتقلون جنبات المحكمة وصعدوا فوق طاولات الجلوس مرددين جماعيا نشيدهم الثوري :
لنا يا رفاق لقاء غدا سنأتي ولن نخلف الموعدا
فهاذي الجماهير في صفنا ودرب النضال يمد اليدا"
سنشعلها ثورة في الجبال سنشعلها ثورة في التلال
وفي كل شبر سنبعثها نشيدا يجدد روح النصال
فلا السجن يوقفنا والخطوب فليس يهدم عزم الشعوب
طغاة النظام مضى عهدهم وشمسهم قد آذنت بالغروب
كانت اللحظة مؤثرة وثورية بامتياز تخترقها زغاريد النساء ووقوف كل الحاضرين في قاعة المحكمة في تحد حماسي للأحكام الجائرة ولمن حبكوها: النظام الكمبرادوري وزبانيته.
لقد سقط القناع مرة أخرى عن وجه نظام دموي حول البلاد إلى سجن كبير، غير مكترث بالقوانين الدولية الإنسانية والحقوقية، معتقدا بذلك أنه سيقضي على كل أشكال المقاومة لسياسات النهب و الاستغلال و الاستبداد و الاضطهاد التي يمارسها.
بعد صدور الأحكام
نقلت سعيدة مع رفيقاتها إلى سجن "عين برجة"(سجن مدني بالدار البيضاء) بينما عاد باقي المعتقلين إلى سجن "غبيلا" (سجن مدني بالبيضاء). حين أقفلت باب زنزانتها لم تكن سعيدة تعلم أنها عاشت آخر لقاء لها مع رفاقها، كانت لحظة وداع قبل الأوان، فسعيدة، ستخوض معركتها الأخيرة وستكون آخر رابط لها بالحياة و بالعالم عندما ستدخل في إضراب طويل عن الطعام ستسقط خلاله شهيدة لتلتحق بمواكب الشهداء.
معركة سعيدة لمنبهي الأخيرة
كان المعتقلون السياسيون الذين تم نقلهم بعد صدور الأحكام من سجن "غبيلة" إلى السجن المركزي بالقنيطرة، الذي بنته السلطات الاستعمارية في المغرب، وهو أحد أكبر سجون إفريقيا، يقضون أول صيف لهم هناك، سجن يلخص تاريخا بأكمله لمناضلي الشعب المغربي ضد الاستعمار بشكليه القديم والجديد،سجن، تظهر أمامه السجون الأخرى صغيرة جدا لحد أنها لن تحتل أكثر من حي من أحيائه. مدينة اعتقال صغيرة بأحيائها ومعاملها ومطبعتها، مدينة خارج الزمن حيث يمر الوقت بطيئا وحيث حساب الزمن مختلف إلى حد أن معتقليه من "الحق العام" اخترعوا طريقة لحساب الزمن فريدة من نوعها فكانوا يرددون أمام كل داخل جديد" الصيف والصيف تمنيام ( 8 أيام) والصيف خمسطاش اليوم ( 15 يوما)، كان يظهر ذلك غريبا لكل قادم جديد لكن ما أن تتوطد أقدامه هناك حتى يدرك كنه تلك العبارة: فالسجن بشكل عام يضم بين جنباته ذوي الأحكام القاسية من حكم الإعدام والمؤبد والأحكام المحدودة من عشر إلى ثلاثين سنة.
وصل المعتقلون السياسيون الماركسيون اللينينيون إلى السجن المركزي بمدينة القنيطرة، بعد أطوار محاكمة صورية في اليوم السابع من مارس من عام 1977. وقد تم نقلهم إلى هناك في "كاميونات" ( شاحنات) السيمي (الفرقة المتحركة للتدخل) مغطاة، تحت حراسة مشددة وبمراقبة من الطائرات المروحية.
صيف 1977 والطريق إلى المعركة الأخيرة للشهيدة.
في صيف 1977 كانت الأمور تظهر داخل حي "أ" وحي "ب"( حيث يقيم معتقلوا محاكمة البيضاء 77 بالسجن المركزي بالقنيطرة) عادية من الخارج ،إلا من بعض المناوشات مع الإدارة وبعض الإضرابات عن الطعام القصيرة (24 س أو 48 س) أو احتجاجات أسر وعائلات المعتقلين ضد تصرفات الإدارة. كان المعتقلون منكبين على تهيئ معركتهم الكبرى ضد الأوضاع التي كانوا يعيشونها ومن أجل انتزاع حقوقهم كمعتقلين سياسيين. كان التهييء يتم في كامل الكتمان لمعركة ستكون كبرى. كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.
رغم العزلة عن رفاقها كانت سعيدة تتابع عن كثب كل ما يجري، وتساهم هي ورفيقاتها في النقاش الجاري داخل منظمة "إلى الأمام" وبين المعتقلين السياسيين. كانت سعيدة متحمسة للإضراب وكانت تشرف على التنسيق مع رفاقها في ظروف أمنية بالغة الصعوبة والتعقيد. كان لازما الحفاظ على سرية الإضراب كما كان تاريخه قد وضع تحت سرية تامة.
في أواخر أكتوبر 77 و بداية نونبر من نفس السنة، حدد يوم 8 نونبر كتاريخ لانطلاق المعركة البطولية التي خاضها المعتقلون السياسيون بالسجن المركزي، والتي دامت 45 يوما. بالنسبة لمنظمة "إلى الأمام" وقيادتها كانت كلمة السر و رمز المعركة يحملان اسم" الشهيد عبد اللطيف زروال".
في السجن المركزي، و في صبيحة يوم 8 نونبر يسلم أحد الرفاق رسالة إلى رئيس حراس حي "أ" بالسجن المركزي ليسلمها بدوره إلى مدير السجن الذي تقضي الإجراءات الإدارية بإرسالها بدوره وتحت إشرافه إلى المدير العام لإدارة السجون بالرباط وإلى وزير العدل. وما إن قرئت الرسالة حتى دبت حركة غير عادية داخل إدارة السجن المركزي، لقد كانت المفاجئة كاملة.
في نفس اللحظة وفي نفس التوقيت تعلن المعتقلات السياسيات بسجن "عين برجة" (سعيدة لمنبهي، فاطمة عكاشة و ربيعة الفتوح)والمعتقل السياسي بسجن غبيلا أبراهام السرفاتي دخولهم المعركة إلى جانب رفاقهم بالسجن المركزي. كانت المطالب واضحة (تحسين الأوضاع المادية والصحية للمعتقلين، من تغذية، وعلاج، وزيارة مباشرة، وفسحة وحيازة المذياع والجرائد والكتب ومتابعة التعليم، وفك العزلة عن الرفاق بسجن "عين برجة" وغبيلة و إلحاقهم برفاقهم...).
لقد انطلقت معركة 8 نونبر 77البطولية.
دامت المعركة 45 يوما من العناد والإصرار والمواجهة والتصدي لمناورات النظام وأحزابه السياسية، التي فضلت الصمت قبل اللجوء إلى المناورة تحت ضغط تضامن وتعاطف الرأي العام الديمقراطي والحقوقي الدولي، ليشكل النظام لجنة مفاوضات تحت إشراف وزير العدل آنذاك المعطي بوعبيد.(اللجنة البرلمانية كان يرأسها الاتحادي فتح الله والعلو).
كانت سعيدة تخوض معركتها الأخيرة إلى جانب رفاقها ورفيقاتها بصمود وعزيمة لا تلين.
وبدأت الأوضاع الصحية للمعتقلين السياسيين تسوء يوما بعد يوم نتيجة الإهمال واللامبالاة وصمت النظام وأحزابه، وكانت حركة العائلات التي تقودها النساء (أمهات وزوجات وأخوات المعتقلين والمعتقلات تخوض نضالاتها المستميتة ضد الصمت واللامبالاة وضد جريمة النظام وضد روح الانتقام الطبقي لدولة متعفنة). تقول عنهن خديجة المنبهي في كتابها "منتقيات من كتاب الاضطهاد" "هؤلاء النساء اللواتي لم يسبق لهن في أغلبيتهن تقريبا، الخروج من بيوتهن، سيتحولن إلى مناضلات مكافحات من أجل قضية أبنائهن"، "كانت اللحظة مثالية بالنسبة لهن للتحرر من السلطة الزوجية وتعلم تجربة جديدة: تجربة أم، زوجة، أخت المعتقل، تعلم النضال من أجل أن يستفيد ذاك أو تلك من أحسن ظروف الاعتقال أو ببساطة إطلاق سراحهم (ن) أو لتحديد تاريخ محاكمتهم (ن)". لولاهن ولولا إصرارهن وصمودهن لسقط العشرات من الشهداء.
من تداعيات و مضاعفات الإضراب الطويل عن الطعام سيتم نقل سعيدة ورفيقتيها فاطمة وربيعة إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء بعد أن ساءت حالتها الصحية وقد وضعت الرفيقات الثلاث في غرفة صغيرة ذات نافذة صغيرة.
و في يوم 10 دجنبر و بعد 33 يوما من بداية الإضراب، نقلت سعيدة إلى غرفة كبيرة وهي في حالة غيبوبة (كوما) حيث ظلت ملقاة على الأرض تحت مراقبة "أمنية" و ليس طبية، فكان رجال السيمي يراقبون نبضاتها ويحملون أدواتهم الطبية رشاشات سوداء مستعدة للإطلاق، أما الأطباء فكأن الأرض ابتلعتهم "فلا قسم أبوقراط نفع ولا ضوء البذلة البيضاء سطع ولا تدخل الهيئة الطبية وقع". كانت سعيدة تعيش لحظاتها الأخيرة فاقدة للوعي بل تحتضر ومن حولها أختيها خديجة و الباهية يقبلانها وتحثانها على المقاومة والبقاء "عيشي حبيبتي قاومي، سعيدة نحبك كثيرا" كانت الكلمات مؤثرة وقوية ترن وسط قاعة ممتدة الأطراف حيث كانت سعيدة ملقاة على الأرض، إنها كلمات وداع أخيرة ولا أحد كان يعلم أنها الأخيرة.
فهل سمعت سعيدة تلك الكلمات الأخيرة؟ سيبقى السؤال دائما و سيظل الجواب أيضا غائبا.
و في يوم 11 دجنبر 1977و كانت الساعة الخامسة صباحا، توقف قلب سعيدة عن الخفقان وسط إهمال طبي إجرامي من النظام.، الأم فخيته الهيلالي تصل على عجل إلى مستشفى ابن رشد وهي تحمل معها أشياء لسعيدة فتصاب بالصدمة ما أن أخبرتها ابنتيها بموت سعيدة. كانت كلماتها وهي تسمع الخبر تنم عن ألم وحزن الأم العميق بعد موت حبيبتها سعيدة:
"كنت عارفها، عارفها، قلبي علمني، هداكشي علاش جيت ليوم".
يوم 12 دجنبر 1977: سعيدة لمنبهي تدخل مدينة مراكش دخول الأبطال الشهداء.
في هذا اليوم تدخل سعيدة مدينة مراكش، بعد سنوات من الغياب دخول الشهداء، كمناضلة ثورية ماركسية لينينية و رمزا لنضال المرأة المغربية.
كان الأب في انتظارها عند باب بيت الأسرة يداري حزنه وألمه على فقدان صغيرته الجميلة، كان البيت غاصا بعائلات المعتقلين السياسيين الذين جاؤوا من كل الجهات. حضر محامو حقوق الإنسان والعديد من المناضلين والمواطنين. كانت سعيدة وهي في كفنها الحريري الأبيض وسط منزلها الأبوي جميلة حتى في موتها.
وانطلق الموكب الجنائزي نحو مقبرة الشهداء بباب دكالة، كان الحضور لافتا وحاشدا، كانت الجنازة مهيبة تليق بمناضلة كبيرة استشهدت من أجل قضايا شعبها. وفي طريقها إلى مثواها الأخير أطلقت حناجر المودعين والمودعات: "سعيدة الشهيدة، في التاريخ خالدة" وتلقفتها الحشود فكانت لحظة وداع مؤثرة لرمز النضال النسائي المغربي.
في إحدى رسائلها من السجن كتبت سعيدة تقول: "اذكروني بدون ألم، وتكلموا عني لأبنائكم". وبعد 34 سنة على استشهادها لازالت أجيال المناضلين والمناضلات تردد اسمها في كل مواقع النضال، ولا زالت المناضلات تغني لها في كل حفل ومناسبة ومسيرة وحركة نضالية، سعيدة اسم على كل لسان...
-من شهيد إلى شهيدة وإلى كل الشهداء
قبل استشهاده بسنتين كتب الشهيد زروال يقول في قصيدة له:
"ها أندا أسقط في الساحة: أحمل وردة حمراء.... تنزف دما: ها أندا عريان أزحف فوق القتلى: وألم أطرافي...كي أمسك بالراية الممزقة: وأنفخ بدمي في رماد الشرارة المحترقة: ها أندا أدفع الضريبة: فلتباركي موتي يا حبيبة."
لا ندري هل قرأت سعيدة هاته الأبيات، ولكنها ككل رفاقها ورفيقاتها ستخلد اسمه في كتاباتها، فمن يكرم الشهيد يتبع خطاه، لقد أقسمت أن تموت ماركسية لينينية فأوفت بوعدها.
على خطى الشهيد عبد اللطيف زروال
تقول سعيدة في إحدى نصوصها الشعرية:
فتحية إلى روح سعيدة الخالدة وسنردد دائما ومن بعدنا الأجيال القادمة: "سعيدة الشهيدة، في التاريخ خالدة" ومن يكرم الشهيد يتبع خطاه حتى النصر.