بعد نشر الموقع للحلقة الأولى من القسم الأول للجزء الثالث من دراسة "مسلسل تصفية المنظمة الماركسية ــ اللينينية المغربية " إلى الأمام " "، و التي تضمنت الفصل الأول، و الحلقة الثانية منه، التي تضمنت الفصل الثاني، يضع الموقع نشرا لكل من الفصل الثالث و الرابع و الخامس ضمن الحلقة الثالثة، منهيا بها فصول القسم الأول من هذا الجزء الثالث الذي سيعمل الموقع لاحقا على نشر فصول القسم الثاني منه.
تنبيه: سيجد القارئ مجموعة من الكلمات ملونة بالأسود وسط النص، و هي كذلك للإشارة إلى أن مكان تلك الكلمات تتواجد هوامش النص التي يكفي وضع المؤشر ( curseur) فوق الكلمة كي يظهر الهامش باللون الأسود(من دون نقر).
مسلسل تصفية المنظمة الماركسية – اللينينية المغربية "إلى الأمام":
الأحداث، السيرورات، الأطروحات، الملابسات و النتائج
الجزء الثالث
القسم الأول
دور الأطروحات التحريفية الجديدة في مسلسل تصفية منظمة "إلى الأمام"
"إن جدلية التاريخ، بما أنها انتصار للماركسية كنظرية، فهي تجبر أعداءها على التلبس بلباس الماركسيين".
La dialectique de l’histoire est telle que la victoire du marxisme en matière de théorie oblige ses ennemis à se déguiser en marxistes
Lénine .œuvres. tome 18 . p 608
الفصل الثالث : ندوة الفرع و خلاصاتها : فبراير 1983
إن القراءة المتأنية لتقرير لجنة الفرع، و الوثائق ذات الصلة بمشروع إعادة البناء، تثبت تخبط العملية نتيجة تناقضاتها البنيوية، و سيتبث النقاش استمرار التناقضات و انعكاساتها داخل الفرع (السجن- الداخل) و تكريس منهجية اللاتقييم كأسلوب رئيسي للعمل، و هو المنهج الذي، إلى جانب مجموعة من التصورات سيؤدي إلى الانهيار، و يكفي إلقاء نظرة على خلاصات و قرارات الندوة، لكي نتأكد من هذه المنهجية العقيمة،التي تسند مجموعة من الأطروحات الخاطئة.
و مما جاء في خلاصات الندوة حول الإستراتيجية و العنف الثوري:
- بعد هذا يخلص المشاركون في الندوة إلى الاتفاقات التالية:
"يتفق كل الرفاق على أنه يجب ألا ننتظر حتى نحدد استراتيجية دقيقة لكي نخرج للممارسة، لذا يجب أن نتفق على الشعارات الاستراتيجية العامة و الرئيسية الملزمة لنا في نشاطنا الجماهيري اليومي".
و في نفس الاتجاه و بالنسبة للعنف الثوري جاء ما يلي:
"يعتبر كافة الرفاق أن شعار العنف الثوري الجماهيري المنظم إيجابي و يجب تدقيقه لاحقا على أساس التحليل الملموس للواقع الملموس".
هكذا أصبحت "الانتظارية" هي الخط الاستراتيجي، أي أن التنظيم لا يستند إلى أي استراتيجية، ما عدا ما أسماه ب"العنف الثوري الجماهيري المنظم"،و هذا لعمري قمة السفسطة و الديماغوجية، ما دام هذا الشعار يعني كل شئ ، ولا شئ في نفس الوقت، و ينطبق نفس الأمر على الخلاصة السادسة، حيث نقرأ ما يلي:
" كما أجمع الرفاق على عدم استعمال صيغة "المنظمة الشيوعية" أو "الماركسية ــ اللينينية"، و أكدوا تشبتهم بالمبادئ الشيوعية، و طالبوا بهذا الصدد برفع توصية إلى "القيادة".
عموما، فكل خلاصات الندوة لا تختلف عن السابقة أعلاه، علما أن تقرير "لجنة الفرع"، لم يتضمن أي تقييم للتجربة، و خاصة تلك التي انخرط فيها المشاركون في الندوة، و معهم أعضاء القيادة بالسجن المركزي منذ 1980، و هكذا، و جوابا عن متحفظ على هذا التقرير (ممتنع عن التصويت) الذي كان يعتبر أنه على أعضاء لجنة الفرع، خلافا للتقرير الذي جاء كجرد تاريخي، أن يقدموا للندوة تقييما لنشاط الفرع خلال السنوات الأخيرة مع استخلاص دروسها الأساسية لانطلاقة جديدة لعمل المنظمة، فجاء الجواب عن طريق ممثل لجنة الفرع، فيما يشبه المثل العربي الذي يقول : "العذر أكبر من الزلة"حيث كان الجواب:
"إن الخلافات التي كانت داخلها (المنظمة) لا تسمح بمثل هذا التقييم، و هذا لم يكن ليمنع رفاق الفرع من القيام بمثل هذا التقييم، على ضوء تقرير لجنة الفرع" (المقتطف نشر ضمن أحد أعداد الشيوعي التي غطت أعمال ندوة نهاية يناير 1982).
كأن مسؤولي لجنة الفرع أرادوا القول: عليكم بالمناقشة إذا شئتم، رغم اننا لا نخبركم بما جرى و يجري، فالتناقضات لا تسمح لنا بذلك،و هذا مرة أخرى، لقمة السفسطة و الهروب من الواقع بدل معالجة تناقضاته، فليس على المناضلين أن يناقشوا إلا ما قدمنا لهم باعتبارنا لجنة الفرع، اي أنه ليس من واجبنا أن نطلعكم على الآراء المتناقضة و المختلفة داخليا، فاقبلوا الصورة التي نقدمها لكم.
الفصل الرابع : تناقض الواقع و انطراح التساؤلات: أمثلة مختلفة
أثارت وثائق "إعادة البناء"لدى مجموعة من المناضلين الذين انخرطوا في هذا المسلسل،عدة أسئلة و تساؤلات، تبين إلى أي حد لم تكن تلك الأوراق تجيب عن انتظارات الواقع الذي أشكل على المناضلين فهمه و استنباط مهام تغييره، و مع ذلك ظل أصحاب "إعادة البناء" متشبتين بأطروحاتهم، و واضعين، من أوكلت لهم مهمة الإشراف العملي على إنجاز ذلك المشروع الفاشل، في ورطة، و هم أصلا ينتمون إلى الجيل الثاني أو الثالث من مناضلي المنظمة، الذين لم تكن لهم معرفة بوثائقها و تجربتها، و كانوا ينتظرون ما أسموه ب "القيادة" في شبه تقديس لها، أن تزودهم بالأجوبة التي تنير لهم الطريق، إلا أن هذه الإنارة جاءت عطبا و ظلاما دامسا، فظل هؤلاء المناضلون يتخبطون في تناقضات لا قدرة لهم على حلها، إلى أن هبت رياح القمع من جديد في خريف 1985.
كان الأمر طبيعيا، لأن مشروع "إعادة البناء" و قادته،الذين جعلوا من "غياب الاستراتيجية"، استراتيجية لهم، و من بنية مهلهلة تنظيميا،خطا تنظيميا، بعدما تم التخلي،عن مجموعة من المفاهيم التنظيمية اللينينية، إضافة إلى غياب خط إديولوجي واضح، و السقوط في "الوسطية" كشكل أولي للتحريفية، كما يشد كل هذه الخيوط الغياب التام لأي تقييم شامل لتجربة المنظمة و خطها، و الاكتفاء بما سمي بالتقييمات الجزئية، و القطاعية، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، و هذا أحد أسباب المغالطات، التي تزعم أنه كان هناك تقييم لتجربة المنظمة، لأن مجموع التقييمات الجزئية يساوي تقييما شاملا، و هذه نظرة ذاتية تجمع بين الانتقائية و التجريبية و البراغماتية.
إن مجموع أوراق ما سمي ب "إعادة البناء"، قد قدمت الأرضيات و المرتكزات الأولى لمشروع تحريفي جديد، بحيث أنه تحت يافطة الماركسية ــ اللينينية، و شعار بناء "منظمة ماركسية ــ لينينية طليعية، صلبة و راسخة جماهيريا"، قامت بزرع البذور الأولى للتحريفية داخل المنظمة، تلك التحريفية التي ستنبث أعشابها السامة في تربة أكثر ملاءمة بعد سقوط ما سمي ب "إعادة البناء" في خريف 1985.
الفصل الخامس : عودة إلى وثيقة "القضايا الاستراتيجية في الثورة المغربية"
1- حول "نظرية الغموض الاستراتيجي"
في أحد أعداد النشرة الداخلية "الشيوعي"، صدر مقال تحت عنوان "التخبط السياسي نتيجة حتمية للصراع بدون هوادة"، في ماي 1982 موقع ب "رفيق قيادي"،وهو عبارة عن رد على نص لأحد رفاقه، يحمل اسم مبروك، الذي كان قد أصدر مقالا تحت عنوان "نقاش نصوص القيادة المعدة للندوة". يتعلق الأمر هنا برد على نقد وثيقة "القضايا الاستراتيجية في الثورة المغربية"، قام به أحد المساهمين في "إعادة البناء"(أحد أبرز قادة هذه العملية)، وهو من خلال ذلك يبرز طبيعة و مضمون الاستراتيجية الجديدة التي قامت عليها عملية "إعادة البناء"، فإلى جانب العديد من الأخطاء في المفاهيم ،هناك عموميات لا ترقى إلى مستوى التحليل الموضوعي، ثم هناك نقطتان أساسيتان تميزت بهما الوثيقة :
1- تغييب الآفاق الأممية و القومية و المغاربية للثورة المغربية (تحليل التناقضات على الصعيد العالمي و العربي و الجيوستراتيجي، و تحديد المعسكرات و التحالفات المرحلية و الاستراتيجية).
2- تغيير الموقف الاستراتيجي للمنظمة دون أدنى تقييم، و استبدال الاستراتيجية الثورية للمنظمة بالاستراتيجية تحت مفهوم عام: "العنف الجماهيري المنظم".
إن قيمة هذا النقاش، ترجع إلى كون أحد مبلوري هذه الاستراتيجية العجيبة، و في سياق الدفاع عن وجهة نظره، و هي وجهة نظر كانت تتبناها القيادة، قد كشف عن أشياء مفاجئة و غير منتظرة و غريبة بكل المقاييس، و يتعلق الأمر بما اسميناه بنظرية "الغموض الاستراتيجي"، في هذا المجال ،لا فرق بين أصحاب الوثيقة (القضاياالاستراتيجية في الثورة المغربية) و أصحاب التيار الإصلاحي، الذي قام هو الآخر، تحت غطاء نقد نظرية "الثورة في الغرب العربي"، بوضع إطار محدد للثورة المغربية، خارج أي ربط أممي قومي أو مغاربي، بمعنى أن الثورة المغربية تدور في وعاء مغلق، بعزلها عن أبعادها الثلاث، أصبح واضحا أن الهدف هو الابتعاد عن الخط الأممي الثوري لمنظمة"إلى الأمام"، بمعنى آخر فقدان الهوية الأممية التي جعلت المنظمة منذ تأسيسها تنحو نحو خط معادي للامبريالية و التحريفية على الصعيد العالمي. لقد كانت إسهامات أو خط ماو تسي تونغ ، هو ما يميز المنظمة عن تحريفية الأحزاب الشيوعية، التي كانت تدور في فلك التحريفية العالمية، و على رأسها الاشتراكية الامبريالية المتمثلة في الاتحاد السوفياتي آنذاك، و لهذا مغزى كبير، لأنه يعبد الطريق لعدة مقولات جديدة و مفاهيم، كانت في صلب الخلافات مع التحريفية العالمية، من قبيل الموقف من العنف الثوري و الطريق السلمي إلى الاشتراكية ، و التعايش السلمي مع الامبريالية، و التطور اللارأسمالي لدول العالم الثالث، و دكتاتورية البروليتاريا، و التحالفات على الصعيد العالمي الخ... إن البتر الذي قام به أصحاب الورقة، يجعل الثورة المغربية تدور في وعاء مغلق، كانت وراءه و لا شك خلفيات، ستكشف السنوات اللاحقة طبيعتها و حقيقتها، أي الالتحاق التدريجي بالحركة التحريفية العالمية.
إن الانتقال إلى استراتيجية جديدة، دون أن تتوفر على حد أدنى ضروري ليمكن تسميتها باستراتيجية، كان المقصود منه و لا شك الانتقال من "الغموض الاستراتيجي" إلى الوضوح السياسي و الاستراتيجي ،الذي سيتشكل تدريجيا خاصة بعد فشل عملية "إعادة البناء". و هنا تظهر حقيقة أخرى ، تكشف خلفية هروب أصحاب الورقة من التقييم الشامل لتجربة المنظمة، بل أيضا الهروب من تقييم جزئي لخطها الاستراتيجي ، كمقدمة لبناء خط استراتيجي جديد ، و هذا يكشف تراجعا أساسيا عن الرصيد الاستراتيجي للمنظمة ،خاصة على مستوى المبادئ و المفاهيم الكبرى كالمراحل الثلاث للاستراتيجية الثورية: مرحلة الدفاع الاستراتيجي ، مرحلة التوازن الاستراتيجي، و مرحلة الهجوم الاستراتيجي، و هي المراحل الثلاث، كما حددها ماو تسي تونغ بالنسبة للثورات، و منها الثورة الوطنية الديموقراطية الشعبية (انظر "حول القضايا الاستراتيجية في الثورة الصينية").
إن إبعاد التقييم الشامل عن مهام المنظمة، خدم وظيفة إبعاد المناضلين عن النقاشات الحقيقية حول الاستراتيجية الثورية، علما أن العدد الكبير منهم لم يكن له أي إلمام بذلك، و سقط في نقاشات مثقفية بعيدة كل البعد عن الاستراتيجية الثورية، بمضمونها الماركسي ــ اللينيني، و في ظل الغموض استطاع بعض المناضلين تلمس تناقضات تلك الورقة، و نفس الشيء بالنسبة للورقة حول "القضايا التكتيكية في خط المنظمة"، حين اعتبروا أن "العنف الجماهيري المنظم" ليس باستراتيجية، و قياسا عليه لا يمكن الحديث عن تكتيك، أو خط تكتيكي، في غياب الاستراتيجية، لكن غياب النظرة الشمولية لدى هؤلاء، جعلتهم يقبلون في الأخير بما سمي ب"استراتيجية العنف الجماهيري المنظم"، و هكذا تم تمرير الورقة، ليتم تبنيها بشكل عام في ندوة يناير 1983 (ندوة الداخل).
بدون الدخول في تفاصيل الصراع و جزئياته، سنتوقف عند إحدى نقط الوثيقة التي دافع فيها صاحب "القضايا الاستراتيجية في الثورة المغربية" عن أطروحته الجديدة ، حول ما يسمى ب"العنف الجماهيري المنظم"، و هي بالمناسبة نفس الأطروحة التي ستتبناها المنظمة خلال ما يسمى ب"إعادة البناء". ينتقد مبروك، صاحب الأرضية بتخليه عن استراتيجية الحرب الشعبية، التي كانت تتبناها منظمة "إلى الأمام"، و يعتبره تخليا عن الوضوح لصالح الغموض، ليس هنا من ضرورة للوقوف على مواقف "مبروك"، و على سلوكاته التي نعرفها جيدا (سبقت الإشارة إليها في الفصول الأولى من هذه الدراسة، و خاصة المتعلقة بسيرورة تطور الاتجاه اليسراوي)، لكن الذي يهمنا هنا، هو التطرق إلى جانب من هذا النقاش الذي دار حول تصدي كاتب هذه المقالة لرفيقه، مدافعا عن الغموض أو خطة الغموض في الطرح الاستراتيجي. فعلى أساس المقتطف أدناه سمينا هذا الطرح ب"نظرية الغموض الاستراتيجي" التي تبلورت كغطاء للتخلي عن أي طرح استراتيجي، دون أدنى تبرير منطقي لهذا الانتقال، من قبيل تقييم استراتيجية "حرب التحرير الشعبية"، التي لم تعد تلائم واقع المغرب (نحن هنا في بداية الثمانينات) حسب الكاتب، و لننظر كيف صاغ جوابه حول التخلي عن الاستراتيجية الثورية للمنظمة.
"إن القيادة بالفعل لم تعد تتبنى حرب التحرير الشعبية كأسلوب لحسم السلطة، و ذلك لاعتبارها بأن هذا الأسلوب، سواء بالشكل الذي مورس بالفيتنام أو الصين، أم بالفهم الذي ساد داخل المنظمة، ليس ملائما للواقع الموضوعي لبلادنا، و لهذا، في انتظار أن نتمكن كمنظمة من معرفة واقع بلادنا بشكل أكثر عمقا و عبر تجدرنا وسط الطبقة العاملة و الفلاحين، اعتبرت القيادة أن تبني صيغة عامة كالعنف الثوري الجماهيري المنظم كافية في الوقت الراهن لتمييزنا عن الإصلاحيين و الانقلابيين و العفويين، و يسمح لنا في نفس الوقت بالقيام بمهامنا الراهنة، أما تحديد الشكل الدقيق لهذا العنف الثوري الجماهيري المنظم فهو رهين بمعرفة أدق لواقع بلادنا الراهن و بتجربتنا في هذا الميدان، و هذا لن يتم فعلا إلا في المستقبل".
إن الرفيق "مبروك" يتهكم و يسخر من هذا الموقف "المضحك"، و لو كانت له نظرة جدلية لهذه المسألة لما سخر من هذا الموقف، يقول مبروك "أعتقد أن أي عاقل لن يقبل استبدال مفهوم واضح بمفهوم غامض، و لن يتفق على أن المفاهيم الغامضة هي التي تكون ملائمة للواقع، هذه الجملة نموذج من التفكير الميتافيزيقي اللاجدلي.
إن المفهوم الواضح لا يكون إيجابيا، و يقدم المعرفة الإنسانية إلا إذا كان مطابقا للواقع و قديما كان للناس مفهوم واضح عن علاقة الفكر و المادة حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الذي خلق الدنيا (المادة) و مع تطور الإنتاج و العلوم بدأ الشك في هذا المفهوم الواضح وبدأ الغموض، و كان الغموض ثورة ضد الوضوح السابق، حيث أنه شكل خطوة نحو الوضوح الجديد و الذي يشكل نقيضا للوضوح القديم، و قديما كذلك كان للبشر نظرة "واضحة" حول علاقة الشمس بالأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض، ثم تراكمت بعض المعطيات لدى البشر و أصبح الغموض يسود لدى أكثرهم تقدما (أما المتخلفين فقد بقي لديهم الوضوح السابق) حتى تحول هذا الغموض إلى وضوح جديد مناقض تماما للوضوح القديم، و بالنسبة لخط المنظمة و إلى حدود الاعتقالات الكبرى في 1976، كان أعضاء المنظمة تقريبا يعتبرون خطها بروليتاريا، لكن بعد الاعتقالات و انفجار أزمة الحملم، طرحت القيادة تقييما "غامضا" للخط و اعتبرته خطا متناقضا فيه ما هو بروليتاري و ما هو برجوازي، و كان هذا الغموض ثورة ضد "الوضوح" القديم الذي اتضح أنه غير ملائم للواقع،و فتح هذا الطرح الغامض إمكانية التقدم، بينما التشبت الميتافيزيقي بالوضوح القديم لم يكن من شأنه أن يخدم المنظمة، إن الجدلية تعلمنا أيها الرفيق مبروك بأن معرفة الإنسان للطبيعة و المجتمع معرفة نسبية، فما هو واضح اليوم يصبح غامضا غدا، و هذا الغموض هو مرحلة نحو وضوح جديد، و جوابا على الرفيق مبروك اقول بأن "العاقل" الذي يستعمل المنهج الجدلي هو ذلك "العاقل" الذي ينقل "الغموض" الذي يقربه من معرفة الواقع على الوضوح المثالي الذي يريح باله و يبعده عن متاعب التفكير الجدلي، هذا عن الوضوح و الغموض".
و لعل القارئ سيفاجئ بمثل هكذا طرح، و لكنها الحقيقة الساطعة. لقد جعل منظر الإستراتيجية الثورية لدى أنصار" خط إعادة البناء"من الغموض استراتيجية و لجأ إلى تبرير ذلك باستعمال عقله "الجدلي"جدا، و الحال، أن منظرنا انطبق عليه المثل العربي القائل"العذر أكبر من الزلة" و الجدل المادي بريء من كل فذلكاته "الجدلية". إن المهم في كل هذا هو اعتراف المنظر الإستراتيجي بنظريته الجديدة حول "الغموض الإستراتيجي"، و بعبارة أخرى فقد جعل من اللاستراتيجية استراتيجية و هذا ما صادقت عليه ندوة يناير 1983، و لم يجد المشاركون في الندوة أي حرج في المصادقة على خطة تاكتيكية لعملهم من أجل إعادة البناء، و هذا لعمري قمة في الغموض الإستراتيجي و التاكتيكي غير مسبوق.