Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.

الصراعات الطبقية بالمغرب و حركة 20فبراير:السياقات، التحديدات والأفق الثوري (1998 – 2012) الحلقة الثانية

Pin it!

يقدم موقع 30 غشت الحلقة الثانية من دراسة: "الصراعات الطبقية بالمغرب و حركة 20 فبراير: السياقات، التحديدات و الأفق الثوري ــ (1998 – 2012)" بقلم الرفيق: وليد الزرقطوني، وتضم هذه الحلقة المحاور التالية:

I ــ بصدد الأزمة البنيوية للرأسمالية العالمية : الأسباب و النتائج

II ــ نضال ضد النيوليبرالية أم نضال ضد الرأسمالية: حول بعض المفاهيم المغلوطة

III ــ الدور الجديد للأنظمة الخليجية وأوليغارشياتها المالية

1 – تطور الوضع العام

2 – تصاعد نضالات شعوب المنطقة العربية واحتداد التناقضات و تشابكها

في أسفل صفحة هذه الحلقة، يوجد رابط الحلقة بصيغة ب.د.ف. (PDF) ــ

 

ـــــــــــــــــــــــــ الحلقة الثانية ــــــــــــــــــــــــــــــ

I ــ بصدد الأزمة البنيوية للرأسمالية العالمية : الأسباب و النتائج

تثير الأزمة البنيوية العميقة للرأسمالية الامبريالية (بصيغتها المعولمة حاليا) العديد من النقاشات، التي تولدت عنها العديد من التفسيرات والأسباب، و ربط النتائج القريبة أو البعيدة الممكنة بتلك التحاليل، و عموما لا تتعدى التفسيرات الاقتصادية للرأسمالية و مثقفيها العضويين، سوى وصف ما جرى و يجري، دون القدرة على التعمق لدراسة جوهر الأزمة و أسبابها الحقيقية، إضافة إلى عجز تام بالتنبؤ بتطوراتها المقبلة.

لن ندخل الآن في شرح أسباب هذا العجز، و لكن نعتقد أن تناول الأزمة بالنسبة للماركسيين اللينينيين يتطلب نقدا قويا لتلك الشروحات، الشيء الذي لن يكون ممكنا دون استيعاب جوهر النمط الإنتاجي الرأسمالي، الذي قامت كتابات مؤسسي الماركسية ــ اللينينية (ماركس – انجلز –لينين : انظر كتابي "الرأسمال" و "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية") بدراسة جوهر مرحلتيه الأساسيتين : المرحلة التنافسية و المرحلة الاحتكارية – الامبريالية.

قام الكتاب "النيولبراليون" و من قبلهم كل المدارس الاقتصادية الرأسمالية، و منذ صدور كتاب الرأسمال، بمحاولات كثيرة لإقبار نظرية ماركس العلمية حول قانون القيمة – العمل، و حول القوانين الأساسية لنمط الإنتاج الرأسمالي (قانون فائض القيمة (النسبي و المطلق)، الانخفاض الميولي لمعدل الربح، التفقير النسبي و المطلق، قانون تمركز و تركز الرأسمال، قانون التطور غير المتكافئ للرأسمال و الرأسمالية ...).

و كانت الرأسمالية الامبريالية المعولمة الحالية، خصوصا بعد انهيار أنظمة رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفياتي و دول أوروبا الشرقية و كذلك سقوط التجربة الاشتراكية الثورية في الصين، مناسبة أخرى لشن هذا الهجوم بنشوة، جعلت مثقفيها و كلاب حراستها يعلنون نهاية التاريخ (لم يعد للتاريخ حسب اعتقادهم سوى بعد واحد هو الرأسمالية، أما التطور فلن يكون إلا تقنيا) و إعلان نظرية "صراع الحضارات" (لم يعد التاريخ يسير نحو التقدم)، وقامت نظرية "ما بعد الحداثة" بإعلان نهاية الحداثة، و دخول مرحلة جديدة، في محاولة لإقبار قيم التقدم والحداثة، التي جاء بها عصر الأنوار، وتمثلت قيمها النظريات الليبرالية والاشتراكية، لتعبد الطريق نحو الفاشية والتيارات الدينية المتطرفة (المحافظون الجدد و الإنجيليون الصهاينة بأمريكا، و الظلاميون في العالم العربي، الذين رأوا في مفاهيم ما بعد الحداثة تأكيدا لرفضهم الحداثة)، إلا أن فرح هؤلاء لم يدم، إذ ما لبثت أن انفجرت أزمات الامبريالية ابتداء من منتصف التسعينات، ووصولا إلى انفجار الأزمة الجديدة سنة 2008، التي نشرت من حولها خوف و فزع الرأسماليين من مستقبل مصالحهم الطبقية ودولهم الرأسمالية، فاهتزت البورصات، إحدى قلاع الرأسمالية على إيقاع إفلاس العشرات من الأبناك بعد سقوط بنك " ليمان برادرز" في 12 شتنبر 2008 (يتم الإعلان مباشرة عن إفلاس 150 بنكا) و اجتماع "هيئات الحرب" لدول العشرين، تأهبا لمواجهة الكارثة، فاتخذت قرارات تقوم على تعميم الجواب الأمريكي على الأزمة، من خلال ضخ ملايير الدولارات (700 مليار) في خزائن الأبناك و الشركات المنهارة، بل تم تأميم مجموعة من الأبناك، كما وقع في بريطانيا، و ذلك ضدا عن مبادئ "النيوليبرالية" (تهاوت نظرية اليد الخفية تماما كأوراق الخريف) و قامت الدول الرأسمالية بتحميل تبعات الأزمة للجماهير، عبر الاقتطاع من ميزانية الدولة و سن سياسة التقشف، و عرفت مدن دول العالم مسيرات و مظاهرات كبيرة رفعت فيها صور ماركس و لينين (ظلت صورة ماركس ترفرف عاليا أمام وول سترويت رمز الرأسمالية العالمية)، وأخرجت دور النشر العالمية كتاب "رأس المال" على شكل كتاب جيب ليكون في متناول الجميع، و لم يتوان بعض الرؤِساء عن الإعلان عن كونهم يقرأون كتاب "رأس المال"، هذا، في وقت لا زال أغلب مثقفيي و يساريي الأمس في بلداننا، يغطون في سبات عميق من أثر صدمات سنوات الثمانينات و التسعينات، فلم يستسيغوا ما وقع إلى أن هزتهم رياح "الربيع العربي"، فراحوا يخبطون خبط عشواء، و يلملمون أوراقهم القديمة لعلهم يجدون فيها ما يشفي الغليل، بعدما كانوا قد أقبروا الماركسية ــ اللينينية، و كل ما يمت للثورة بصلة، داعين إلى الانتقالات السلمية و صناديق الاقتراع والديموقراطية و المواطنة و غيرها من المصطلحات المضللة، و تنطبق عليهم قولة ماركس الشهيرة "التاريخ يصدر حكمه و الجماهير تنفذه" و "من يجهل التاريخ محكوم عليه أن يعيد إنتاجه".

من بين التفاسير المنتشرة في كل مكان، لحد أن العديد من " اليساريين " يلوكها، مفادها، أن المضاربات و اتساع دائرتها هو سبب الأزمة، و من هنا دعواتهم إلى تدخل الدولة لضبط حركة الأموال ... و الحال أن المضاربة تتغذى من الأرباح و الكتلة النقدية التي يخلقها القرض، اللذان لا يجدان إمكانية للتوظيف في استثمارات منتجة لقيم التبادل المربحة، بحكم تأثير قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح، مما جعل الكتلة النقدية تنتفخ متجاوزة الاحتياج الذي يتطلبه الإنتاج. ولإدراك هاته الحركية التي ساهمت في تفجير الفقاعات المالية، نشير إلى أن الحجم السنوي للمبادلات المالية أصبح يتجاوز أكثر من 10 مرات حجم المبادلات التجارية للبضائع و الخدمات، بحيث أصبحت هذه الكتلة النقدية لا تقوم على وسائل الإنتاج، أي خارج عملية الإنتاج الفعلي، بل تقوم على شراء منتجات مالية، هي بدورها تعرف ارتفاعا في قيمتها النقدية (المضاربات في العملة، الأسهم، les créances).

خلافا لما يدعيه التحريفيون عموما، و الإصلاحيون خصوصا، فليست المضاربة المالية هي ما يفرمل عجلة الاستثمار، بل العكس، أي أنها نتيجة و ليس سببا، ففرص استثمار الأرباح في أنشطة منتجة ومربحة أصبحت محدودة، مما ساهم في تطور المضاربات المالية بالشكل الخيالي، الذي أصبحت تعرفه الرأسمالية الحالية (تحت تأثير قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح، و للتذكير فآلاف المعامل بأمريكا قد تم إقفالها).

في ظل غياب إدراك علمي لمعنى الثروة التي تخلقها الطبيعة وقوة العمل، يعتقد الناس أن المال هو الثروة أو مصدرها، بحيث عند سؤال كيف الحصول على المال بدون خلق للثروة يأتي الجواب: بتبادل النقد مقابل النقد، و ما يساهم في خلق هذا الوهم، كون النقد احتياط افتراضي للقيمة، مما يجعله يأخذ استقلالية في مسلسل الرأسمالية بالنسبة لإنتاج القيم نفسها. في هذا السياق تمثل الأزمة المالية الحالية هيكلة عنيفة للكتلة النقدية الضخمة، التي تمثل ثروة اجتماعية افتراضية، و الكتلة الحقيقية للثروة التي ينتجها استغلال العمل. ليس هناك تحطيم للثروة الحقيقية (الشيء الذي يمكن أن يقع بعد ذلك)، ولكن سقوط الوهم الذي تمثله الثروة النقدية، مما يظهر الطابع الوهمي لهذا الغنى المتراكم بصورته المالية، الشيء الذي يمثل اعترافا بأن هذه الثروة لا يمكن خلقها و تحقيقها خارج التبادل السلعي، و خارج إنتاج قيم التبادل، حيث تتحدد قيمة البضائع بالوقت الضروري اجتماعيا لإنتاجها، و حيث يتحقق معدل الربح في علاقته مع الرأسمال المتحرك و الرأسمال الثابت، وهنا نجد تأكيدا دائما و ملموسا لنظرية القيمة الماركسي. و في إطار الصعوبة التي يجدها الرأسمال في إعادة استثماره داخل الإنتاج السلعي (أزمة التراكم و إعادة الإنتاج الموسع...) تتولد الأزمة المالية، التي هي تعبير عن أزمة اقتصادية خانقة طال أمدها.

وهذا ما يجعلنا ندرك لماذا تقوم الأزمة المالية بضرب استقرار الأبناك، التي تقلص بدورها من القروض (كل الاستثمار الرأسمالي يقوم على القروض)، وبالتالي ينعكس ذلك على مختلف القطاعات الاقتصادية، و هنا تتدخل الدولة باعتبارها التعبير عن الإرادة الجماعية للرأسماليين، في محاولة لإنقاذ المؤسسات و الأبناك من الإفلاس، وبحكم توفرها على القوة العمومية، تحاول إعادة الثقة، عن طريق القروض و الاقتراض العمومي، لكن هذا لا يمنع المضاربات من الاستمرار.

تعمق الأزمة المالية أزمات دول الرأسمالية التابعة العاجزة عن الأداء، وتشجع الرساميل على الاتجاه إلى البلدان الأكثر استقرارا، فتتوقف القروض و يتم إخراج الرساميل. و تساهم الأزمة المالية كذلك في خلخلة موازين القوى، بين القوى الامبريالية على الصعيد العالمي (تأثير صعود الصين و روسيا والهند و البرازيل و جنوب إفريقيا، أو ما يسمى بالبريكس)، كما تساهم في ارتفاع التوترات الاقتصادية و العسكرية و تنامي خطر الحرب.

بالنسبة لدول الأطراف التي تنتمي أغلبها للبلدان الرأسمالية التابعة، فانطلاقا من معيار علاقات الإنتاج الرأسمالية، الذي يوضح منطقة إعادة إنتاج هذه العلاقات على الصعيد الدولي، من خلال تقسيم العمل الدولي الرأسمالي (النظام الرأسمالي العالمي في سياق تطوره ينتج قطبين: قطب الرأسمالية المتطورة و قطب الرأسمالية التابعة)، فأزمة دول ما يسمى ب "دول الجنوب"، تنتمي إلى ما يسمى بأزمة الرأسمالية التابعة، ذلك أن حركة تراكم الرأسمال و عملية إعادة الإنتاج الموسع، تتم على قاعدة المزيد من التبعية للسوق الرأسمالية العالمية. إن هذا التوزيع المبني على عملية التوزيع المتواصلة لإجمال الناتج الاجتماعي، يتم في إطار الاقتصاد الرأسمالي الامبريالي الدولي لصالح البلدان الرأسمالية المتطورة، عن طريق التجارة الدولية، وتصدير الرأسمال، و نقل التكنولوجيا، و الاستيلاء على فائض القيمة في مجال الإنتاج، عن طريق الاستغلال المكثف، الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسيات لقوة العمل في بلدان الأطراف.

إن الأزمات التي تجتازها الدول الرأسمالية التابعة، تؤدي باستمرار إلى المساهمة في استنزاف الدخل القومي لهذه البلدان و ترحيله صوب المراكز الرأسمالية المتطورة.

و القاعدة، أن البورجوازيات الكومبرادورية أو المحلية في هاته البلدان، لا تجد أمامها، في ظل الرأسمالية التابعة سوى خيارين، فإما استمرار تركيز شديد للسلطة، من أجل ضبط إيقاع الصراع الطبقي المحتد في ظروف الأزمة، عبر القمع الممنهج من أجل أن يعيد النظام إنتاج كل مستوياته، في ظروف هادئة و مستقرة، أو تقوم هذه الأنظمة بمناورة "إصلاحية" لتلطيف التناقضات، و هذا مرتبط بعوامل داخلية و خارجية، و كذلك بتناسب القوى محليا، و بمستوى و طبيعة الاندماج في الاقتصاد الامبريالي، و موقع البلد في الاستراتيجية الشمولية للرأسمال العالمي، و قد تكون خلطة من هذا وذاك، ربحا للوقت و ضمانا لاستمرار عملية التراكم الرأسمال الكومبرادوري الامبريالي، في ظروف مناسبة، على أمل أن تتجاوز رأسمالية المركز أزمتها، في هذا السياق يكثر الحديث لدى ساسة هذه الأنظمة، و مثقفيها، و أجهزة إعلامها، عن فضائل الاستقرار والأمن، و عن الوطنية و غيرها، و تدخل النقابات البيروقراطية و الأحزاب الإصلاحية و المجتمع المدني على الخط، و هي بذلك تساهم مقابل الفتات الممول من الصناديق السوداء، في التنفيس عن أزمة الدولة الكومبرادورية (مثال السكتة القلبية التي جاء بها صندوق النقد الدولي و التي استعملها الحسن الثاني، و ابتلعتها الأحزاب السياسية، كما لو أن المغاربة يقتسمون الأسباب التي سببت هاته الأزمة القلبية المزعومة).

II نضال ضد النيوليبرالية أم نضال ضد الرأسمالية: حول بعض المفاهيم المغلوطة:

عند نهاية الحرب العالمية الثانية، و بتزكية من الأحزاب الشيوعية التحريفية الأوروبية (الفرنسية و الإيطالية...)، وبعد القبول بوضع السلاح و تصفية المقاومة المسلحة، قبلت هذه الأحزاب في إطار، و ضمن مشروع شامل خططت له أمريكا (مشروع مارشال)، لإعادة بناء أوربا، و تهييء الشروط لتوقيف الزحف الشيوعي، وبذلك ساهم الشيوعيون التحريفيون (مثال الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي دخل أول حكومة بعد الحرب إلى جانب دوغول) في صنع وهم "الدولة الاجتماعية العادلة و للجميع"، و هكذا تمت مجموعة من التأميمات، تسمح بإعادة هيكلة جهاز الإنتاج، وتحت ضغط الطبقة العاملة، تحققت مجموعة من المنجزات على المستوى الاجتماعي، التي لم تكن هدية من البورحوازية، بل نتاج موازين قوى محليا و عالميا.

وراء هذه الدولة الاجتماعية اختبأ الاستغلال، و بعد القيام بمهامها تم طرد هذه الأحزاب من الحكومة، و هاته هي الفترة التي يتغنى بها البعض، و يحن إليها البعض الآخر (و هي بداية ما يطلق عليه من طرف أبواق البورجوازية الأوروبية "السنوات الثلاثون المجيدة")، وأمام الهجوم الرأسمالي الكبير، الذي دشنته الرأسمالية العالمية ضد الطبقة العاملة، و الطبقات الكادحة، و ضد النساء، و ضد شعوب العالم، تهاوت تلك الأوهام.

منذ سنوات السبعينات، تحاول الرأسمالية إعادة تحقيق معدل ربح يسمح لها بالاستمرار، (انظر روح قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح)، فقامت، وتقوم، بتصفية العديد من الشركات، ومناصب الشغل، والمكتسبات، التي حققتها الطبقة العاملة، هذا، سواء كانت الحكومات من اليمين أو "اليسار"، و هذه الفترة الجديدة هي التي ستسمى بالفترة "النيوليبرالية"، وفي سياقها تطور خطاب إيديولوجي بتبعات سياسية، انتشرت في العديد من الحركات الاجتماعية واليسارية مفاده، أنه لم يعد مطروحا مواجهة الرأسمالية، بل "النيوليبرالية"، وانطلاقا من السياسات الاقتصادية، التي تبعت ذلك، غياب دور الدولة، ومن هنا الدعوة إلى عودة "الدولة الاجتماعية"، التي ستحمي الجميع، و من هنا الوهم، الذي يدفع العديد إلى الدفاع عن رأسمالية طيبة، كما هو الحال عند الأحزاب التحريفية، والاشتراكية الديموقراطية، والجمعيات المناهضة للعولمة (مثال أطاك، npa التروتسكي) والغريب أن هذه القوى تدعي القيام على يسار الأحزاب الشيوعية التحريفية، دون القطع الإيديولوجي مع نظرياتها، الذي قام في السبعينات بتقديم العديد من الأطروحات منها ما سماه "بالديموقراطية المتقدمة" (نموذج الحزب الشيوعي الفرنسي)، و"التوافق التاريخي" (نموذج الحزب الشيوعي الإيطالي)، ثم السقوط أخيرا فيما سمي ب "الأوروشيوعية" (جمعت حول أطروحاتها، التي بلورها كاريو سانتياغو، الحزب الشيوعي الاسباني، الحزب الشيوعي الفرنسي، الحزب الشيوعي الإيطالي، الحزب الشيوعي البريطاني، الحزب الشيوعي البرتغالي) في محاولة للتغطية عن تراجعه عن مفهوم دكتاتورية البروليتاريا، الشيء الذي يقوم به الآن التحريفيون الجدد والتروتسكيون و غيرهم، حينما يتكلمون عن مرحلة جديدة تهم النضال ضد "النيوليبرالية"، وتعود العديد من هذه الأطروحات إلى أوهام البورجوازية الصغيرة حول الدولة و حيادها، و يتناسى أصحابها أن الدولة هي التي تقود، إذ هي التي قامت بعملية التأميم سنة 1945 في محاولة لصد أي احتمالات ثورة.

والآن في ظل "النيوليبرالية"، ومع اندلاع أزمة "السوبرايم "، قامت الدولة بتأميم قطاعات بنكية، كما هو الحال في بريطانيا و ألمانيا و في العديد من الدول الرأسمالية، تفاديا للإفلاس، وعندما هدد ساركوزي بسياسة الضبط، قام مجموعة من المثقفين يناقشون موضوع " هل أصبح ساركوزي يساريا "، علما أنه يمكن للبرالي البورجوازي أن يصبح دولانيا (اشتراكية الدولة) ÉTATISTE و العكس صحيح، و بعد خطابات انمحاء دور الدولة، برز للعيان دورها من جديد لدعم المؤسسات المفلسة.

و الخلاصة، أن دعاة النضال ضد النيوليبرالية، لا يرون أن الدولة البورجوازية تقود باتفاق مع الاحتكارات، وبين الفينة والأخرى، فقد تقبل بعدد من الامتيازات الاجتماعية تحت قوة ضغط الطبقة العاملة و غيرها. ليس شعار الدولة "لنقم بالاجتماعي و لكن، "لنقم بالحرب الاقتصادية".

إن أزمة فائض الإنتاج تزيد من القروض و المضاربات لتحريك الآلة الرأسمالية مؤقتا، و تحل المديونية العمومية، عن طريق مساعدة الدولة للشركات والمؤسسات محل المديونية الخاصة (مديونية المؤسسات والشركات) لكنها تولد فقاعات مالية جديدة، وبالتالي يتولد عجز للدولة يتعمق باستمرار، ومن هنا مخططات التقشف التي تتبناها الحكومات اليمينية أو اليسارية أو الإيكولوجية، في مسعى لتحميل الجماهير تبعات الأزمة الامبريالية.

في بعض جوانب التطور المتناقض للعولمة المالية، نجد أن اتجاهات تطور العولمة الرأسمالية أفرزت عناصر جديدة، في معطى العلاقات بين المراكز الرأسمالية، و ما يطلق عليه بالقوى الصاعدة، فإلى حدود نهاية القرن 20 ، كان اتجاه تصدير الرساميل و الفوائض المالية، يسير من المراكز نحو ما يسمى ب "دول الجنوب"، لكن مع دخول الرأسمالية الامبريالية فترة جديدة من التطور المعولم، و ما أنتجه من شروط مفروضة على شعوب و دول العالم، من طرف المراكز الامبريالية و مؤسساتها الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ...)، عرفت مجموعة من الدول (الصين، الهند، دول الخليج) تراكما في فوائض ميزان الأداءات الجاري، وهناك مثال صارخ على هذا التطور، فقد بلغ عجز ميزان الأداءات الأمريكي سنة 2006 : 2،6% من مجموع الناتج الداخلي الخام، بينما عرف الميزان الصيني فائضا بمعدل 4،9% سنة 2006 ليصل المعدل إلى 7،11% سنة 2007 ، و تقوم هذه القوى الرأسمالية الامبريالية الصاعدة بتصدير فوائضها إلى بلدان المركز، لتتحول إلى دول مانحة بالنسبة لدول صناعية تعيش على عجز في ميزان أدائها مثل و.م. أ، وهذه الرساميل – طبعا – تقوم بتعويض ذلك النقص والعجز، وقد بلغ تطور هذه الحالة إلى حدود تحكم هذه الدول في 72 ٪ من الاحتياطات المالية العالمية، يتعلق الأمر إذن، بتحول عميق في التوازن المالي العالمي للرأسمالية. هكذا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية دولة مدينة و مستقبلة، أمام الصين التي أصبحت دولة مانحة، و طبيعي أن هذا الوضع الجديد أعطى لهذه الدول أداة قوة و ضغط فيما يخص استعمالات تلك الفوائض.

من العوامل التي قلبت تلك المعطيات و حولت تجاه الرساميل، كون و م أ بلد الريغانية و التطبيقات النيوليبرالية للاقتصاد النقدي، و للخروج من الأزمة، سارت في اتجاه سن سياسة نقدية توسعية (EXPANSIVE)، تميزت بمعدلات فائدة ضعيفة، من أجل تشجيع الاستهلاك الداخلي.

تولد عن ذلك ضعف و غياب توفير داخلي، و خاصة للأسر مما أضعف شروط تمويل احتياجات الاستثمار، نتج عنه عجز في ميزان الأداءات الأمريكي، ولجوء أمريكا إلى الرساميل الأجنبية، التي ستتدفق من اليابان، ثم بعد ذلك من القوى الصاعدة، التي بدأت تعرف فائضا في التوفير (الصين و دول الخليج).

ورغم تدفق هذه الرساميل على الاقتصاد الأمريكي – بحيث يعوض عن العجز الحاصل في ميزان الأداءات – فإن سيطرة أمريكا على نظام الصرف العالمي، و كون هذه الدول المانحة الصاعدة مرتبطة بالدولار على مستوى الصرف، فإن هذا يهدد مخزوناتها من عملة الدولار.

إن النمو الاقتصادي السريع الذي عرفته مجموعة من هذه البلدان الصاعدة، يعود إلى عدة اعتبارات، منها تطويرها لتدبير اقتصادها، مثل الصين، وكذلك لارتفاع أسعار مصادر الطاقة، التي تولدت عنها فوائض كبيرة في بلدان الخليج، كما يعود إلى توفر يد عاملة رخيصة، يتم استغلالها بشكل مناقض لأبسط "حقوق الإنسان" (السعودية، الهند، الصين، كوريا).

ورغم هذا التطور الحاصل على مستوى البنى العالمية، وعلى الرغم من تزايد الاحتياطي المالي لهذه البلدان،  فإنها لم تستطع لحد الساعة أن تحقق الحرية الشاملة في التحرك، مما يلزمها اللجوء إلى الأسواق الدولية الأكثر أمانا، غير أن هذه الأسواق (سوق الأسهم و الالتزامات) توجد في الولايات المتحدة أو أوروبا و اليابان، بينما لا زالت الأسواق المالية للدول الصاعدة ضعيفة، و تجد هذه الرساميل نفسها في وضعية حرجة، كلما حاولت اقتحام قطاعات إستراتيجية داخل بلدان المركز الرأسمالي، ذلك أن الأسواق المالية في و م أ تظل مهيمنة، في وقت لازال الدولار يلعب دوره كعملة للاحتياطي والمبادلات ( 65٪ من الاحتياطات الخارجية العالمية معبرا عنها بالدولار، مقابل 24٪ بالنسبة للأورو).

و معلوم أن حوالي 70٪ من احتياطي هذه الدول الصاعدة، يعبر عنها بالدولار، و يعني كل هذا وجود مخاطر تهدد مصالح هذه البلدان، كلما اقتحمت مجالات جديدة استراتيجية للاقتصاديات الرأسمالية الكبيرة، في محاولة لتنويع احتياطاتها، فكل حركة غير مدروسة ستولد انخفاض قيمة الدولار، الذي سيولد بدوره انخفاضا لكل تلك القيم و الاحتياطات المتراكمة لدى الدول المانحة. و لأن محرك اقتصاد الرأسمال هو الربح، إذ لا مكان للأخلاق هنا، تستمر هذه الصناديق و الرساميل، في محاولاتها لاقتحام قطاعات جديدة، خاصة الاستراتيجية منها، مما ولد تخوفات كبيرة لدى المراكز الرأسمالية الكبيرة، كما يتبين من تصريحات كثيرة من القادة الأوربيين و الأمريكيين، و من شرائح رأسمالية في هذه البلدان، وقد ذهب البعض إلى حد التخوف من الاستعمالات السياسية لذلك: من أجل الحصول، مثلا، على التكنولوجيا العالية.

نسجل إذن انتقالا للقوى المالية لصالح قوى صاعدة، لكن دون أن تستطيع هذه الأخيرة بعد، أن تأخذ مكانة هذه الدول المتقدمة على مستوى "الذكاء المالي" INGÉNIERIE FINANCIÈRE

III ـ الدور الجديد للأنظمة الخليجية وأوليغارشياتها المالية

1 – تطور الوضع العام

ينتشر الحديث في الآونة الأخيرة (خاصة بعد انطلاق ما يسمى ب "الربيع العربي") عن دول الخليج، أو ما يسمى ب "مجلس التعاون الخليجي"، إذ لا يمر يوم دون نزول أخبار تتناول مواقف و تدخل هاته البلدان في القضايا العربية والدولية، سياسية كانت أو اقتصادية، بل حتى عسكرية، فبعد السيطرة الشاملة على الإعلام العربي، و مؤسسات السينما و الفن والرياضة ... وإطلاق العديد من شبكات الفتاوى الدينية، أو ما يسميه البعض "الدين بيزنس"، حيث يتبارى فقهاء الوهابية وخدامهم في إنزال فتاوى، لا تترك صغيرة أو كبيرة دون أن تفتي فيها، فتاوى تتميز بغرائبيتها وعجائبيتها، يجمع بينها رفضها التام والمطلق لقيم الحداثة، بشقيها الاشتراكي والليبرالي.

وفي زحمة الأخبار المتتالية، يطفو باستمرار على السطح دور دول الخليج العربية، في المسلسل الجاري حاليا بالمنطقة العربية : دور قطر التي تحتضن أكبر قاعدة امبريالية أمريكية في الشرق الأوسط، وتستخدم جهازا إعلاميا فعالا ومؤثرا، يبسط سيطرته على العالم العربي : شبكة "الجزيرة" التي تخدم المصالح الإمبريالية والرجعية والصهيونية، و دور السعودية المهيمن عبر امبراطورية إعلامية متحكم فيها، و عبر استراتيجية استعمار إيديولوجي يتخذ طابعا دينيا وهابيا غارقا في الرجعية، هذا الدور الذي يعتمد على حاضنات اجتماعية ممولة بالبترودولار، مشكلة من الحركات السلفية المستعدة للتحرك استجابة لأوامر المخابرات السعودية، خدمة لمصالح النظام السعودي الاقتصادية و الاستراتيجية.

وفي سياق الحملات المشوشة على المواطن العربي المتروك لحاله، تنتشر الأحاديث عما يسمى بالقروض والأبناك الإسلامية، والمنتوج المالي الإسلامي، وغيرها من الترهات و الأضاليل، التي تخفي الأدوار الحقيقية لبورجوازيات هذه الدول، و على الأصح أوليغارشياتها، و لجشعها المتنامي باستمرار، عبر محاولات الاستحواذ على أهم المقدرات والخيرات الاقتصادية للمنطقة العربية برمتها، خدمة للمصالح الإمبريالية و الصهيونية واستراتيجياتها العامة.

إن هذا الهجوم لا يهم المنطقة العربية فقط، بل يتعداه إلى بقية مناطق العالم، حيث تكشف صناديق الاستثمار الخليجية، عن شهية لا حدود لها، للاستيلاء على قطاعات العقار والمواقع الاستراتيجية (الموانئ، المطارات....).

فمن أين لهاته البلدان ودعاة الاقتصاد الإسلامي وغيره من المنتوجات، بهذه المقدرات على التأثير ولعب أدوار رئيسية في كثير من القضايا؟

ماذا يخفي "إسلاميونا" وسدنة "المقدس" ودعاة "الاقتصاد الحلال" وراء الهجمة الشرسة والنهمة للرأسمال المالي الخليجي؟ لإدراك كل هذا، على اليسار الثوري أن يعيد النظر في العديد من المفاهيم الشائخة والمتقادمة حول طبيعة هذه الأنظمة، اجتماعيا واقتصاديا واستراتيجيا.

لقد تطورت المعطيات بشكل متسارع، مما أصبح يحتم الوقوف عندها بكل الدقة المطلوبة، والموضوعية، والمنهجية الرصينة، وذلك لتحديد محاور وأسس استراتيجية ثورية، يتفاعل فيها المحلي والإقليمي والعالمي، استعدادا للمواجهة الشاملة للثالوث الإمبريالي، الرجعي- الظلامي، الصهيوني في وضعه الراهن.

عموما، كان ملوك و مشايخ المستعمرات البريطانية، من بين الدول التي استفادت أكثر من تطور العولمة، التي أطلقت جماح الرأسمال المالي و المضارباتي، و اللعب بمقدرات و خيرات الشعوب، و العمل على تفقيرها عبر سياسات مختلفة.

لقد رافق هذا التطور ارتفاعا صاروخيا في أسعار مجموعة من المواد الاستراتيجية، على رأسها البترول و الغاز الطبيعي، بشكل لم يسبق له نظير، فامتلأت خزائن هذه الأنظمة بمداخيل هائلة من الدولار (الدول المعنية: البحرين، الكويت، عمان، قطر، العربية السعودية، الإمارات العربية).

فبالنسبة لفترة 2002 – 2006 تضاعف سعر الخام ثلاث مرات، مما كان له أثر كبير على تكدس الفوائض بهذه البلدان، حيث أنه بالنسبة لنفس الفترة فقط، تم توظيف 542 مليار دولار في استثمارات مختلفة خارج هذه الدول، و بطبيعة الحال، كان الاتجاه نحو أمريكا بشكل رئيسي حسب إحدى الجمعيات البنكية، 300 مليار دولار منها، توجهت نحو أوربا، كما بدأ الاهتمام بالهند و الصين، وتتوجه هذه الرساميل نحو قطاع العقار، سواء في المدن الكبيرة ( لندن، نيويورك ...) أو حتى في بعض دول الجنوب ( الفنادق الفاخرة ... )، كما تستثمر هذه الرساميل في قطاعات استراتيجية مثل قطاع الطيران.

هكذا تكاثرت صناديق الاستثمارات الخليجية و أبناكها الإسلامية، التي تغذيها الفوائد و الفوائض المتجمعة في صناديق هذه البلدان، لدرجة أن بعض قطاعات الرأسمال الامبريالي في أوربا (مثال ألمانيا) و موقف ميركل الداعي إلى ضبط استثمارات هذه الرساميل، خاصة و أن أصحابها لا يعملون بالشفافية المطلوبة، ومن هنا تصاعد التخوف من أدوار سياسية محتملة، ضاغطة في هذا الاتجاه أو ذاك، لصالح جهات معينة (أمريكا).

في إطار تنامي الدور المالي للأوليغارشيات المالية بالمشيخات البترولية، تم خلق ما يسمى بصناديق التنمية الإسلامية، التي أصبحت إحدى المصادر الخاصة للتمويل، من أجل تحقيق مشاريع، مثل برامج الخصخصة في المنطقة و في "دول الجنوب"، حيث أصبحت البنوك الإسلامية يتعاظم دورها أكثر فأكثر، كمزود بالرساميل، خاصة في البلدان الإسلامية، أو يعيش فيها مسلمون، وتتمركز أهم صناديق "التنمية الإسلامية" و المؤسسات المالية الإقليمية - الإسلامية في ثلاث دول خليجية، و هي العربية السعودية، الكويت، الإمارات العربية، و تمثل هذه البلدان أهم المساهمين في هاته المؤسسات الإسلامية، وتقوم إلى جانبها مؤسسات تشتغل على ما تسميه بالأعمال الخيرية، التي توضع في خدمة مشاريع "التنمية الإسلامية"، و من حيث نمط التسيير، تستثني هذه الصناديق و البنوك المساهمات الدولية.

ارتبط انطلاق هذه البنوك الإسلامية، و ما يسمى بالقطاع المالي الإسلامي، بتزايد مداخيل دول البترول الخليجية، من عائدات الريع البترولي و مبيعاته، التي عرفت نتيجة ارتفاع الأسعار الصاروخي تضخما هائلا، و استفادت هذه البنوك والصناديق من عولمة الاقتصاد، و تحرير حركة الرساميل و الخصخصة و غيرها (على المستوى الاقتصادي، تطبق هذه الدول المفاهيم الليبرالية، و هي عضو في المنظمة العالمية للتجارة، و يثبت هذا ألا تناقض بين النيوليبرالية وما يسمى بالاقتصاد الرأسمالي، ، الذي تروج له حركات الإسلام السياسي المدعمة من طرف هذه الدول).

وفي سياق تزايد الاحتياج للرساميل لتمويل مشاريع البنيات التحتية في الشرق الأوسط، و آسيا، و في المنطقة المغاربية، تنتعش هذه الصناديق والأبناك المسماة إسلامية، و ينتعش معها أيضا "الإنتاج الحلال"، الذي تطور بدوره كقطاع صناعي و تجاري بأوربا الغربية، التي تقيم بها جاليات عربية وإسلامية حيث يتغطى الاستهلاك الرأسمالي بغطاء إيديولوجي، لدرجة أن الأوربيين بدأوا يستثمرون من داخله ...

هكذا استقبلت البنوك الإسلامية عمليات تمويل هذه المشاريع كأنماط استثمار طويلة الأمد، مقبولة من وجهة نظر دينية، و تعرف هذه الأبناك نموا يتعدى 15٪ سنويا (يقدر عدد المؤسسات المالية الإسلامية التي تتوفر على رصيد إجمالي يتجاوز 110 مليار دولار ب 140 مؤسسة موزعة بين أربعين دولة لتقديم خدماتها الإسلامية) (هذه الأرقام مرشحة للارتفاع باستمرار).

أمام هذا الوضع، اضطرت مجموعة من المؤسسات المالية الغربية، إلى إدخال بعض المنتجات الإسلامية في أنشطتها، بهدف جلب سيولة سوق يتطور.

هكذا مرة أخرى تتأكد حقيقة صارخة، وهي أن رأس المال لا لون له و لا طعم ولا رائحة، بل يهمه فقط الربح و كل الطرق تؤدي إليه، و ليبارك الرب كل الرأسماليين من كل الأديان، و بتعبير آخر، فالرأسمال لا دين له ولا وطن، فالربح دينه و وطنه.

2 – تصاعد نضالات شعوب المنطقة العربية واحتداد التناقضات و تشابكها:

بحكم موقعها الجغرافي و الاستراتيجي، و غناها بالموارد الطبيعية الاستراتيجية، و بحكم عوامل التاريخ و الثقافة، تحظى منطقة العالم العربي باهتمام بالغ من كل القوى الامبريالية العالمية، التي تتنافس من أجل الاستيلاء على تلك الاحتياطات الاستراتيجية، من أجل دعم موقعها في الصراع الدائر بينها، سعيا نحو الهيمنة و القيادة.

و قد تزايد هذا الصراع نتيجة تطور النظام الامبريالي العالمي، بحكم فعل و تأثير قانون التطور غير المتكافئ للرأسمالية، هكذا، و بعد فترة من انفراد الامبريالية الأمريكية، بعد سقوط الاشتراكو- امبريالية السوفياتية بالهيمنة على العالم، ظهرت على الساحة الدولية قوة امبريالية جديدة، تسعى إلى تأكيد ذاتها و تعزيز مواقعها (لا نريد هنا الخوض في موضوع من هي هذه الامبرياليات الجديدة نظرا لما يثيره من قضايا نظرية ليس هنا مكان مناقشتها)، إلا أننا ننطلق في فهمنا للظاهرة من الخصائص العامة، التي حددها لينين للإمبريالية، و هي :

1 – تمركز الإنتاج و الرأسمال إلى درجة عالية أدت إلى نشوء الاحتكارات، التي أصبحت تلعب دورا حاسما في الحياة الاقتصادية.

2 – اندماج الرأسمال الصناعي و الرأسمال البنكي، و على قاعدة هذا الاندماج ينشأ الرأسمال المالي، و الأوليغارشيا المالية.

3 – تصدير الرساميل، الذي تجاوز تصدير البضائع، وأخذ يحتل وضعا خاصا و متميزا.

4 – تشكل اتحادات احتكارية دولية للرأسماليين تقوم بتقسيم العالم فيما بينها.

5 – انتهاء التقسيم الترابي للعالم بين مختلف القوى الرأسمالية الكبرى، و تحول أغلب دول العالم إلى مستعمرات و شبه مستعمرات.

وبالاعتماد كذلك على فهمنا لقانون التطور غير المتكافئ للرأسمالية، الذي اكتشفه لينين، نعتبر أنه لا يجب التسرع في إطلاق مصطلح امبريالية على أية دولة بدأت تتصف بسياسات امبريالية، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية، فأن تكون سياسية ما امبريالية، لا يعني أن الدولة التي تقوم بها دولة امبريالية، بالمفهوم العلمي للإمبريالية، و حديثنا هنا لا علاقة له بالدوغمائية، التي ترفض القيام بتحاليل جديدة لتطور الرأسمالية العالمية، بل ندعو إلى عكس ذلك، و بطبيعة الحال على أرضية النظرية الماركسية – اللينينية الصلبة. و مع ذلك فإن هذا لا ينفي القول بأن مجموعة من الدول هي دول تتوفر فيها كل عناصر المفهوم اللينيني للإمبريالية، كالصين و روسيا و الهند، بينما هناك دول في طريقها إلى أن تصبح كذلك، مثال تركيا بدرجة أولى، و البرازيل و جنوب إفريقيا بدرجة ثانية، و العديد من الدول الأخرى تظل تنتمي إلى منظومة الدول التابعة ببنياتها شبه الإقطاعية و شبه الرأسمالية بالشكل الذي حدده لينين و الأممية الثالثة، و سار على ذلك ماو تسي تونغ.

و باختصار، فإن كل دول المنطقة العربية، هي دول تابعة ضمن المنظومة العالمية للرأسمالية، و جلها تعاني من بنيات عشائرية و شبه إقطاعية و رأسمالية كومبرادورية، و باعتبارها كذلك، فهي تحتضن و تستقبل و تتفاعل مع كل تناقضات الامبريالية العالمية، سواء كانت سياسة أو اقتصادية أو عسكرية أو استراتيجية، ضمن تراتبية التطور الامبريالي، بما يجعل المنطقة ساحة لكل الصراعات البين- امبريالية و البين- إقليمية.

على امتداد منطقة العالم العربي تخوض الإمبرياليات العالمية، خاصة الأمريكية و الأوروبية و الصينية و الروسية معارك فيما بينها، تطال الجوانب السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الإيديولوجية، و تكون تارة بشكل مباشر و تارة بالوكالة مع سيادة هذه الأخيرة، كما يظهر بشكل واضح في سوريا و ليبيا و اليمن، و ذلك من أجل الاستحواذ على الأسواق و الموارد الطبيعية، و احتلال مواقع استراتيجية متقدمة، في إطار الاستعداد للمعارك الحاسمة بين الامبرياليات، فالإمبريالية و الحروب توأم سيامي.

و تخضع المنطقة كذلك لتأثير التناقضات بين القوى الإقليمية في المنطقة، فمن جهة، تسعى السعودية إلى الحفاظ على موقع الهيمنة في المنطقة العربية، الذي اكتسبته منذ ما سمي ب "الحقبة السعودية" مستفيدة من التراكم الهائل لمليارات البترودولار، التي تحصلها من مداخيل الريع البترولي، و في سياق مشروعها الهيمني، استثمرت ملايير الدولارات للقيام باستعمار إيديولوجي عن طريق بث و نشر الفكر الوهابي الظلامي الإرهابي، و استقطاب مئات الألوف من الأنصار و تمويل قياداتهم بالدولار، و ذلك لبسط النفوذ السياسي و الإيديولوجي داخل دول المنطقة العربية، و تقوم المخابرات السعودية بتحريك الحركات السلفية الظلامية كلما دعت الضرورة إلى ذلك، بما في ذلك تدريبهم و تزويدهم بالسلاح و تحويلهم إلى جماعات إرهابية (مثال سوريا، ليبيا، لبنان ...) و يوما بعد يوم تزداد سياسات التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بما فيها التدخلات العسكرية المباشرة (مثال اليمن).

و في سياق الدفاع عن موقع هيمنتها على المنطقة العربية، تحاول السعودية بناء تحالف استراتيجي مفتوح مع الكيان الصهيوني بشكل مكشوف، بعد أن ظل لعشرات السنين مستترا، تجر معها باقي الأنظمة الرجعية العربية وفي مقدمتها مصر، و ذلك تحت شعار مكافحة النفوذ و "الإرهاب" الإيرانيين، و باعتبار أن الصراع هو بين السنة و الشيعة، و بطبيعة الحال فإن هذا المشروع ينخرط ضمن المشروع الاستراتيجي الأمريكي، الذي يحمل اليوم عنوان "صفقة القرن" و التي ليست إلا "مشروع إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل"، و الذي بدأت بعض بنوده تظهر للعيان بعقد "مؤتمر أوسلو" الأخير (2019) و قبله "ضم القدس إلى إسرائيل" ثم اعتبار "الجولان أرضا إسرائيلية" من طرف الرئيس الأمريكي ترامب ..

مقابل هذا المشروع الاستراتيجي الهيمني، تقود إيران مشروعا هيمنيا آخر مضادا، و تعمل على توسيع دائرتها في المنطقة العربية و الإفريقية، عبر مد جسور التواصل مع الفئات الشيعية في العراق و سوريا و لبنان و اليمن و السعودية، و عبر خلق طوائف شيعية جديدة في شمال إفريقيا، و في إفريقيا جنوب الصحراء. و لدعم مشروعها الاستراتيجي تعزز إيران هيمنتها على العراق، و تستفيد من السياسات الامبريالية و الرجعية، التي تعمل على تفتيت الدول العربية، في سياق إعادة صياغة "اتفاقية سايكس بيكو" و بيع القضية الفلسطينية و التآمر عليها من أجل تصفيتها، و في هذا السياق يأتي تدخلها في سوريا و في غزة و لبنان، و تزداد قوتها العسكرية يوما عن يوم، و ذلك لدعم نفوذها السياسي و الاقتصادي و العسكري و الإيديولوجي، كما أن سياستها الخارجية و العسكرية تستفيد من دعم الامبريالية الروسية و الصينية، و اللعب على التناقضات بين الامبريالية الأمريكية و الأوروبية، و قد حققت المصالح الإقليمية لإيران في المنطقة تقدما مهما، زاد من خوف و هلع بلدان الخليج العربية و في مقدمتها السعودية.

و أمام هاتان القوتان الإقليميتان المتصارعتان، كشف ما يسمى ب "الربيع العربي" (خاصة في مصر و تونس) ثم الهجوم الامبريالي الرجعي الظلامي على سوريا، عن ظهور قوة ثالثة تحاول بسط نفوذها على المنطقة العربية، و يتعلق الأمر هنا بتركيا. و قد عرفت بالفعل العشرية الأخيرة صعودا متناميا للقوة التركية، ظهرت بشكل كبير بعد سقوط نظام محمد مرسي بمصر، و الهجوم على سوريا، حيث شكلت الأراضي التركية معبرا لعشرات الألوف من الإرهابيين الظلاميين، الذين قدموا من مختلف بقاع العالم، و اللذين تم استقطابهم و تأطيرهم و تسليحهم بمسميات مختلفة، بهدف الإجهاز على الدولة السورية و تجزيئ البلاد (بالإضافة إلى هذا، فإن الاستقطاب كان هدفه كذلك التخلص من إرهابيين محتملين في العديد من الدول الأوروبية و غيرها و قد أطلق على هذه العملية "عش الدبابير" ).

في بداية الهجوم على سوريا، انضمت تركيا إلى التحالف الامبريالي الرجعي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية و السعودية و قطر قبل أن تنفصل عنه تدريجيا، دفاعا عن مصالحها القومية الخاصة و دخولها في تحالفات جزئية مع روسيا و إيران.

و لدعم نفوذها و تحقيق استراتيجيتها الهيمنية، تعتمد تركيا على قوتها العسكرية (تتوفر تركيا على قاعدة عسكرية في قطر و أخرى في السودان) و الاقتصادية. ومهدت تركيا للعودة إلى المنطقة العربية بمجموعة من المسلسلات التلفيزيونية، بعضها يمجد تاريخ الدولة العثمانية، و ذلك في محاولة لإحياء حلم – وهم الخلافة الإسلامية، و بذلك أطلق على قادة تركيا الجدد "العثمانيون الجدد". لقد اختارت البورجوازية التركية داخليا، و بالنسبة للمنطقة العربية ركوب حصان طروادة،  حركة "الإخوان المسلمين"، و بالفعل، لدعم مشروعها الهيمني الإقليمي، يعتمد نظام أردوغان على "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين"، كما ظهر ذلك في تونس و ليبيا و مصر و سوريا و لبنان و المغرب، و امتد إلى بعض البلدان الإفريقية مثل الصومال، و استفادت تركيا من تحالفها مع قطر، التي انشقت عن مجموعة "مجلس التعاون الخليجي" و ركبت هي الأخرى المشروع الإخواني و دعمته ماليا و إعلاميا، ضدا على المشروع الظلامي الآخر السعودي الوهابي، و قد كانت قطر سباقة في فتح الأبواب على مصراعيها للكيان الصهيوني، الذي أصبح إعلاميوه و مثقفوه يطلون يوميا عبر قناة "الجزيرة" لنفث سمومهم الصهيونية العنصرية. و في هذا تلتقي تركيا مع قطر، فتركيا يجمعها بالكيان الصهيوني اتفاقات اقتصادية و عسكرية، و تشكل تركيا معبرا للبضائع الصهيونية إلى العالم العربي.

و تحتل تركيا منذ أواخر ثلاثينيات القرن الماضي أراضي سورية، و هو الأمر نفسه، الذي قامت به إيران في عهد الشاه باحتلال أراضي و جزر عربية.

و تنضاف إلى هذه التناقضات، تناقضات أخرى بنيوية و داخلية، تخص كل بلد على حدى، منها ما هو طبقي و منها ما هو قومي، عرقي و طائفي، يتأثر بالتناقضات البينية للإمبريالية، و بالتناقضات الإقليمية للقوى الكبرى في المنطقة، مما يساهم في تشويه و طمس التناقضات الأساسية والرئيسية لهذه البلدان، و يجعل الصراع الطبقي مميعا بصراعات مزيفة تأخذ طابعا دينيا أو عرقيا أو قوميا.

إن جل هذه البلدان تعاني من غياب أو فشل الثورات الوطنية الديموقراطية، و تعيش في ظل بنيات امبريالية كومبرادورية بأنظمة سياسية استبدادية رجعية عشائرية أو غيرها، يحتل فيها الدين أو المذهب و الثقافة الرجعية للماضي دورا حاسما في الإبقاء على استغلال و استعباد عشرات الملايين من الكادحين و الكادحات.

إن التناقضات البين امبريالية و التناقضات بين القوى الإقليمية، يضاف إليها زرع دويلة صهيونية في قلب المنطقة لمنع أي مشروع وحدوي يقوم بين مختلف شعوب المنطقة، تشوه طبيعة التناقضات الأساسية و الرئيسية عن طريق جعل التناقضات ذات طبيعة دينية أو عرقية أو طائفية، أو عن طريق تشتيت القوى الطبقية المختلفة و قواها السياسية لتصبح قوى إسلامية سنية في مواجهة قوى مسيحية أو شيعية ... فتضرب البنية الطبقية و ينحرف الصراع عن سكته الصحيحة.

إن هذه العناصر كلها مجتمعة تنم عن تداخل و تشابك للتناقضات الطبقية و لسيرورة تطورها. و قد سقط العديد من المناضلين في أخطاء فادحة فيما يخص تقييمهم للأوضاع التي نشأت في هذه البلدان، نتيجة السيرورات النضالية للجماهير في السنوات الأخيرة، فظهرت سطحية تحاليلهم و عدم قدرتهم على فك لغز تشابك التناقضات و تداخلها، فصاروا يساندون ثورات مزعومة كما هو الحال بالنسبة لما سمي ب "الثورة السورية"، غير مدركين لطبيعة التناقض الرئيسي الذي كان يتطور بسرعة فائقة، و الذي جعل من مهمة الدفاع عن الوطن السوري مهمة عاجلة في مواجهة فلول الرجعية والظلامية و عملاء الصهيونية و الامبريالية.

كان لابد من استعراض كل هذه المعطيات، لإظهار أن التحولات التي عرفتها و تعرفها المنطقة العربية تستدعي تحاليل رصينة و علمية ملموسة و تاريخية، و هو الأمر الذي يطرح على كل الماركسيين – اللينينيين الحقيقيين، من أجل بناء وحدة الشعوب و القوميات و الأقليات، التي تعيش على هذه الأرض التاريخية، الشيء الذي لن يتحقق إلا بالقضاء على المصالح الامبريالية و الصهيونية و الرجعية ضمن مشروع التآخي بين الشعوب الذي لن تحققه سوى الاشتراكية. (يتبع بحلقة ثالثة)

وليد الزوقطوني

27 / 03 / 2019

 

Ok

En poursuivant votre navigation sur ce site, vous acceptez l'utilisation de cookies. Ces derniers assurent le bon fonctionnement de nos services. En savoir plus.